
” بروكنجز ” يضع استراتيجية لكيفية التصدي للتهديد الإرهابي المستمر
يعد انتشار التنظيمات الإرهابية من أكثر الظواهر التي تمثل تهديدًا خطيرًا للمجتمع الدولي، نتيجة لاستهداف تلك التنظيمات لأمن الدول والمجتمعات. وعلى الرغم من الهزيمة الجغرافية لتنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وتراجع سيطرة المكانية على أراضي الخلافة المزعومة، إلا أنه لم يهزم فكريًا وعقائديًا. وقد سعى التنظيم للحفاظ على بقاءه عن طريق اتباع تكتيكات مناورة والهام المتطرفين لتنفيذ الهجمات وتهديد آمن الأفراد والمجتمعات.
وفي هذا السياق أصدر “مركز بروكنجز” في مايو 2019 تقريًرا مهمًا بعنوان” إعادة الجني الإرهابي إلى مخبأة: كيف نتصدى للتهديد الإرهابي المستمر؟”. ويتناول التقرير التطور المستمر لأسلوب عمل تنظيم “داعش”، مع اقتراح استراتيجية فعاله تحدد الإطار الذي يجب أن تتبناه الدولة لمواجهة إرهاب التنظيم.
النسخة الثانية من داعش
نجح تنظيم “داعش” في الاستثمار في حالة الفراغ الأمني التي برزت في أعقاب “الثورات العربية”، مستغلًا الظلم الاجتماعي والقمع السياسي من أجل الترويج لخطابه التكفيري. بحلول نهاية عام 2014، سيطر في ذروة قوته على ثلث سورية والعراق
انبثق تنظيم “داعش “عن تنظيم “القاعدة” وشاركه إيدلوجيته السلفية الجهادية. غير أنه اختلف عنه، في رغبة الأول في السيطرة على الأراضي وسعيه إلى فتح جبهات قتال متعددة بشن هجمات في مناطق جغرافية مختلفة في وقت واحدة، ما جعله تنظيم فريدًا من نوعه.
ورغم خسائره الإقليمية في العراق وسوريا، إلا أنه يحتفظ بوجود عالمي وإقليمي، ولازال نشطًا ومنتشرًا في العالم الافتراضي نتيجة لما يتمتع به من بالمرونة والديناميكية والقدرة على التكيف، فالتنظيم في إطار تعامله مع خسائره ينطلق من قناعة مفادها ” أنها معركة وليست الحرب”، إذ يصف تراجعه باعتباره مرحلة مؤقته في الطريق الطويل للنصر.
وفي سياق ما يتمتع به التنظيم من قدرة ومرونة، لفت التقرير أن هناك تحدى يستوجب المواجهة متمثلًا في ظاهرة المقاتلون العائدون. فوفقًا لتقرير مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة” مازال هناك ما بين 20 ألفاً- 30ألفامن مقاتلي” داعش” في سورية، بمن فيهم الآلاف من الأجانب”. فقد سافر أكثر من 5 ألاف من أوروبا الغربية إلى سورية. ومنذ عام 2014 نفذ الإرهابيون أكثر من 100 هجوم في أوروبا، نجح منها 41 عملية.
ومن المحتمل أن يسعى المقاتلون الأجانب العائدون إلى استنزاف مؤسسات الدولة، وتهديد أمن الأفراد. وبإلقاء الضوء على النشاط الإرهابي الذي قام به “داعش” في دول الاتحاد الأوروبي طول السنوات الأربع الماضية. نجد أن التنظيم يستخدم “الفوضى التكتيكة”، مع عدم وجود قاسم مشترك بين هجماته. فلم تكن هناك أهمية رمزية لتوقيت تنفيذ الهجمات، ولا مبرر يمكن استخدامه للتنبؤ بها. كذلك كانت الأهداف مزيجًا متنوعًا مثل: المؤسسات الحكومية والمواقع الدينية وغيرها من الأهداف المدنية. إذ أنه مرنًا للغاية في اختيار أهدافه، ما يشكل تحديًا صعبًا للغاية بالنسبة لأي وكالة استخباراتية، وذلك لأن من المستحيل معرفة أين يخطط التنظيم ليضرب من جديد. وقد سعى التقرير إلى إبراز تحديات ظاهرة المقاتلون العائدون، والتي يمكن الوقوف عليها في النقاط التالية:
- التهديد من الداخل:
- أشار التقرير إلى أن أقل من خمس المؤامرات الجهادية في أوروبا قد تورط فيها مقاتلون عائدون من سورية. وكان ثلثا المهاجمين تقريبًا من الذئاب المنفردة، وذلك باستخدام أسلحة بسيطة مثل المطارق أو السكاكين أو المركبات. ومن المرجح أن يكون النشاط الإرهابي أكثر لا مركزية مدفوعًا من قبل الخلايا المحلية التي تتولى القيادة والمبادر. وبعد فقدان التنظيم لمعاقله الرئيسية، قام بِحثّ أتباعه على تنفيذ المزيد من هجمات الذئاب المنفردة في بلدانها الأصلية بدلًا من السفر إلى مناطق النزاع.
- العلاقة بين الإرهاب والجريمة:
- أكد التقرير على أن أكثر من نصف مجندي “داعش” في معظم البلدان الأوروبية هم من أصحاب سوابق إجرامية، لكنهم يتخلون عن نشاطهم الإجرامي لصالح الجهاد، موظفين إمكانية وصولهم إلى موارد من عالم الجريمة. وبالتالي، قد نشهد عمليات إرهابية بتكتيكات إجرامية. ومستقبلًا، ستؤدي عودة المقاتلين الأجانب إلى تحسين قدرات التجمعات المتطرفة المحلية. ويمكن أن تكون أعدادهم كافية “لإضفاء الطابع المهني” على الجهاديين الأوروبيين المحليين واستخدامهم للتكتيكات والتكنولوجيا المتقدمة.
- تحدي المراقبة:
- يتطلب لجوء الإرهابيين إلى استخدام الإنترنت وألعاب الكمبيوتر للاتصال مزيدًا من المراقبة. فمع سقوط دولة الخلافة المزعومة، من المتوقع أن يتبنى “داعش” مسارًا مختلفًا إذ يمكن أن ينتقل من العمليات العلنية إلى حرب غير المتماثلة السرية. وتنتشر شبكات الخلايا النائمة بشكل منهجي لتقويض استقرار وآمن الدول. وبدلًا من استخدام الشبكات الاجتماعية السائدة ً مثل Twitter أو WhatsApp سيتم دفع نشطاء “داعش” إلى استخدام الإنترنت المظلم.
كيف يمكن التصدي للتهديد الإرهابي؟
بينما تتصدى البلدان للتحديات الإرهابية العاجلة، فإنها في كثير من الأحيان تتجاهل المشكلات الأساسية والتخطيط طويل الأجل. ومن ثّم، يجب على الحكومات تعتمد على استراتيجية شاملة، تمنع الإرهاب في مراحله المختلفة، بدءًا من منع التطرف، وصولًا إلى إحباط أي تحرك هجومي. يحدد هذا التقرير خمسة أبعاد استراتيجية يجب على الحكومات النظر فيها من أجل رسم وإعداد طريقة استجابتها للإرهاب، ويمكن الوقوف عليها في النقاط التالية:
التعليم: تتعلق المبادرات التعليمية لمكافحة الإرهاب بقدرة الغرب على التواصل مع المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء العالم، وإقامة علاقة إيجابية معهم، وتشجيعهم على رفض الاتجاه الحالي نحو الجهاد. كذلك يجب على الغرب معالجة مشكلة التطرف وغياب الحوكمة في البلدان الإسلامية، وذلك بإنشاء مؤسسات تعليمية وتوفير الأمن في المناطق الريفية والحضرية. وفي هذا السياق، أكدت “كاثرين زيمرمان” الباحث الزائر في معهد المشروع الأمريكي “على الولايات المتحدة وشركائها التركيز على كسر الروابط بين الجماعات السلفية الجهادية والمجتمعات المحلية”
التشريع: استناداً إلى أن الجانب القانوني أحد ثوابت مواجهة الإرهاب، يجب سن التشريعات المناسبة التي تقوض الظاهرة الإرهابية، كذا يجب أن يحقق القانون التوازن بين روح الديمقراطية والحاجة الأمنية، حتى في البلدان الديمقراطية التي تقدس الحريات الشخصية. ولابد أن توفر التشريعات المساحة الفاعلة التي تتحرك فيها أجهزة الاستخبارات بشكل سريع من أجل القبض على الإرهابيين المحتملين واستجوابهم، حتى في حالة عدم وجود تهم جنائية ملموسة في بعض الحالات المعينة.
وفى سياق يروز ظاهرة المقاتلون العائدون، تزداد التحديات القانونية لظاهرة الإرهاب. إذ تتمثل العقبة الرئيسة أمام مواجهة هذا التحدي في عدم وجود معيار قانوني لتحديد العضوية في “داعش”. كما أن هناك كثير ممن شاركوا بنشاط في جهاز “داعش” المدني. كيف ينبغي التعامل مع هؤلاء الأفراد بطريقة قانونية بمجرد وصولهم إلى الموانئ الغربية؟ هل يجب مقاضاتهم لقيامهم “بواجبات مدنية”؟ ماذا عن الأطفال الذين ولدوا في الخلافة؟ وأولئك الذين تطوعوا في سن مبكرة ثم تراجعوا ولكن أجبروا على البقاء؟ وبالتالي، تحتاج هذه الأسئلة القانونية معالجة سريعة من قبل صناع القرار، حتى لا تتفاقم وتنمو الظاهرة. لذلك، يجب أن يعمل المشرعون على إغلاق الثغرات القانونية التي يمكن أن يستغلها الإرهابيون.
الاستخبارات: تقوم شبكات الاستخبارات الفعالة بالتحذير من احتمال حدوث نشاط مخطط له، سواء تم تنفيذه بواسطة شبكات أو ذئاب منفردة أو خلايا محلية. فيجب على وكالات الاستخبارات تطوير مؤشرات وأجهزة استشعار جديدة تلتقط المؤشرات (سواء البشرية أو الإلكترونية) لأي مواد يمكن استخدامها في إنتاج المتفجرات. ومن ثّم، هناك حاجه مُلحه لبناء “منظومة إنذار” فعالة لمراقبة الجهات الفاعلة الإرهابية والبنية التحتية بشكل مستمر. ما يوفر القدرة على التحذير من أي هجوم وشيك، وبتطور أساليب عمل الإرهابيين بشكل أكثر سرية، سيستمر نمو التحديات التي يمكن أن تواجه أعمال الاستخبارات. وسيصبح الكشف المبكر عن وسائل وأساليب الاتصال أمر حيويًا لاستراتيجية مكافحة الإرهاب الفعالة
فرض وانفاذ القانون: يتعلق إنفاذ أو تطبيق القانون بالقدرة على توفير استجابة سريعة وفعالة للتنبيه. ولكي يتم تطبيق مكافحة فاعله للإرهاب لابد من إيجاد تكاملًا قويًا بين الكيانات (أجهزة الأمن والمخابرات) على الصعيدين المحلي والدولي، من أجل إدارة الأزمة بفعالية. فعلى المستوى التكتيكي، هناك حاجة لوجود فرق احترافية من قوات شرطة وفرق التدخل السريع. وعلى المستوى الاستراتيجي، هناك حاجة لتعاون وتبادل المعلومات ومعرفة الشركاء، والوصول إلى فهمًا مشتركًا لكيفية التعاون المثمر لتدمير البنية التحتية للإرهاب على أساس منظم. ومن الناحية العملية، تعد عملية إنفاذ القانون، هي نقطة تقاطع رئيسة في عملية مكافحة الإرهاب حيث تتجمع القدرات المختلفة وتتعاون لمنع وقوع أي هجوم.
الدفاع: عندما تفشل جميع التدابير السابقة يعد الدفاع هو الملاذ الاخير. وتعد أحد التحديات المتصاعدة التي تتطلب مزيدًا من الاهتمام هو التحدي الخطير الذي يفرضه “داعش” على أمن الطيران المدني حول العالم. إذ يقوم تنظيم بالهام المتطرفين وجعلهم ينفذون هجمات إرهابية ما يوسع دائرة الإرهابيين المحتملين بشكل كبير، لتضم، تمثيلا لا حصرًا موظفي الطيران مثل الميكانيكيين والحمالين وطواقم الطيران. هذا من شانه أن يُشكل تحديًا أمام القدرة على جمع المعلومات الاستخباراتية اللازمة لإحباط الهجمات والتأكد من سلامة حركة نقل الركاب والبضائع.
وعليه، يجب استخدام التكنولوجيا والإجراءات والبروتوكولات والإجراءات الوقائية للحفاظ على سلامة النقل والطيران والتجمعات العامة إذ إنه يستلزم أنظمة الأمنية والأساليب الوقائية والتقنيات المتقدمة، وبخاصة في المطارات ومحطات القطارات والتجمعات الجماهيرية. كما يمكن أن يكون وجود ً الجنود أو ضباط الشرطة بشكل علني في المواقع الحساسة فعالا من أجل تقويض القدرة على تحقيق ً هجوم إرهابي واسع النطاق.
مجمل القول،
أكد التقرير على أن تنظيم “داعش” لايزال يشكل تهديدًا حقيقيًا للغرب، فبعد أن فقد سيطرته على الأرض فأنه سيعتمد على الأرجح على الهجمات المدوية شديدة التأثير من أجل تجنيد والهام عديد من المتطرفين في جميع أنحاء العالم. ومن المحتمل أن تستهدف تلك الهجمات الطيران المدني أو وسائل النقل الأخرى. كذلك أوضح التقرير أنه لا يوجد تدبير واحد مفصل وجاهز يستطيع منع حدوث عمل إرهابي. لكن يبقى الهدف هو تقليل احتمالية وقوع هجوم من جهة. وتقليل الضرر الناجم عن أي هجوم يتم تنفيذه، من جهة أخرى. لذلك، لا يصف التقرير سياسة محددة أو يوفر حلا ًموحدًا مفصلا يناسب جميع المشاكل، ولكنه يمنح ً صانعي السياسة الأدوات التي يمكن بواسطتها تحديد النقاط الغائبة أو الثغرات الموجودة في نهج بلادهم لمكافحة الإرهاب. فإن العالم الوحيد الذي يمكن تصوره اليوم هو عالم يمكن فيه احتواء الإرهاب بدلًا من القضاء عليه.
للاطلاع على التقرير انظر:
Eyal Tsir Cohen, “Pushing the jihadist genie back into the bottle: How to counter the ongoing terrorist threat”, Brookings Institution , May2019.https://www.brookings.edu/research/pushing-the-jihadist-genieback-into-the-bottle-how-to-counter-the-ongoing-terrorist-threat/
باحثة ببرنامج قضايا الأمن والدفاع