تركيا

العقوبات الأمريكية على تركيا … بين التعطيل والتطبيق

تُظهر المعطيات المتسارعة على صعيد الازمة السورية اتجاه تصادمي كبير بين الولايات المتحدة وتركيا؛ إذ تسعى كل منهما لفرض نموذج يخدم أهدافها النهائية من الحالة السورية قبيل تحقيق أي تقدم نحو التسوية السياسية الجارية داخل أروقة اللجنة الدستورية المنعقدة، إلا أن افتقاد التجانس في المرحلة الحالية بين واشنطن وأنقرة يدفع بالمشهد الى مزيد من التشاحن المرن حتى الان. وقد تعددت صور التشاحن الأمريكي التركي مؤخرًا كإطلاق أنقرة عملية عسكرية شمال شرق سوريا، الامر الذي دفع الولايات المتحدة للإعلان عن اتجاهها نحو معاقبة أنقرة على هذا السلوك المهدد لمصالح وحلفاء الولايات المتحدة في سوريا. فيما كشفت مجريات الاحداث وجود اتفاق أمريكي تركي لانسحاب وحدات قوات سوريا الديمقراطية من المنطقة الآمنة التي تسعي تركيا للسيطرة عليها، مقابل إيقاف العملية العسكرية شرق الفرات.

وكشفت عدة تقارير عن تبني واشنطن سياسة مفادها التلويح بفرض عقوبات على النظام التركي، وهي ليست الأولي من نوعها إذ سبق ووقعت الإدارة الامريكية حزمة من الإجراءات العقابية ضد أنقرة منتصف أكتوبر2019، ولكن تزامن طرح ثلاثة مشروعات قوانين بالكونجرس الأمريكي مع إبلاغ الولايات المتحدة للجيش الروسي بهجوم مدفعي لفصائل مسلحة مدعومة من تركيا على قافلة عسكرية أميركية قرب مدينة “تل تمر” السورية، في 4نوفمبر2019، وإعلان الرئيس التركي “أردوغان” أنه سيستمر في العمليات العسكرية بسوريا مع استمرار الولايات المتحدة في تسيير دوريات مشتركة مع وحدات حماية الشعب الكردية داخل سوريا. وهو ما يجعل من الأهمية بالبحث في اتجاهات واشنطن كونها ذات روابط متعددة بالنظام التركي، وقوة دولية مؤثرة قادرة على كبح جماح السلوك التركي المزعزع لجهود المجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب وإنجاح مسارات الحل السياسي في سوريا. 

دوافع التصدي الأمريكي لتحركات أردوغان في سوريا

تتحرك واشنطن لإظهار جدية تصديها للسلوك التركي عبر الإعلان عن عقوبات جاري اعدادها وأخرى دخلت حيز التنفيذ؛ مع تمسك أنقرة بفرض واقع جديد بالشمال السوري، مدفوعةً بمحددات عدة، تتباين في اتجاهاتها وتتفق في أهمية تعديل سلوك “أردوغان” المهدد لمصالحها بالمنطقة بشكل عام، وفى سوريا على وجه الخصوص. وتبرز بين تلك الدوافع مجموعة متعلقة بالداخل الأمريكي ومنها تهدئة الداخل الأمريكي المشتبك مع عدة قضايا كدعوات عزل الرئيس، وغضب الكونغرس والشيوخ المتصاعد من السلوك التركي، والتعاطي غير الملائم من إدارة “ترامب” معه. لذا جرى تفسير الأمر التنفيذي بشأن العقوبات المتعلقة بسوريا الذي أصدره الرئيس الأمريكي “ترامب” في 14أكتوبر2019، كمحاولة لخفض حدة الحوار الجاري ضد أنقرة بين النواب الأمريكيين.

وعلى الجانب الاخر، ترتبط مجموعة من الدوافع بسياسات وأهداف الولايات المتحدة في المنطقة، وأهمها تقويم السلوك التركي في التوقيت الحالي؛ إذ أصبحت تعتمد سياسات تتعارض ومصالح واشنطن الاستراتيجية كتأمين القوات الامريكية وآبار النفط، وحماية حلفاءها في قوات سوريا الديمقراطية، وخفض النفوذ الروسي في سوريا عبر التواجد بشكل مباشر وغير مباشر بالساحة السورية. فضلاً عن الإبقاء على مكتسبات الحرب على الإرهاب عبر تقويض فرص تجدد خطر التنظيمات الإرهابية، وعدم إتاحة المجال لاقتطاع أراضي الشمال السوري لتصبح معقلاً للتنظيمات الإرهابية الموالية لأنقرة؛ الامر الذي يهدد بإعادة تموضع تلك التنظيمات وتجدد خطر “داعش”.

أدوات واشنطن للتعاطي مع سلوك أنقرة

توظف الولايات المتحدة مجموعة من أدواتها العقابية لمواجهة التحركات التركية في الأراضي السورية، والتي جاء أولها في الأمر التنفيذي بشأن العقوبات المتعلقة بسوريا الذي أصدره الرئيس الأمريكي “ترامب” في 14أكتوبر2019، وبموجبة يتم فرض عقوبات على المسؤولين الأتراك الحاليين والسابقين والوكالات الحكومية وقطاعات الاقتصاد التركي؛ لتورطهم في العمليات العسكرية المستمرة في شمال شرق سوريا، وترويع النازحين أو إعادتهم قسريًا إلى سوريا أو التدخل في الحل السياسي للصراع السوري وتأزيم الوضع. وفقًا لما يحدده وزير الخزانة وبما يشمل العقوبات المالية، وحظر الممتلكات، ومنع الدخول إلى الولايات المتحدة. وقد ضم الأمر مجموعة من الوزراء الاتراك كوزير الدفاع “خلوصي أكار”، ووزير الداخلية “سليمان صويلو”، ووزير الطاقة والموارد الطبيعية “فاتح دونماز”. كما شمل الأمر وزراتي الدفاع والطاقة والموارد الطبيعية التركيتين. 

كما اتجه الكونغرس ومجلس الشيوخ لإصدار حزمة تشريعية عقابية لمواجهة سلوك تركيا، ومن أبرزها قانون الحماية ضد النزاع التركي الذي قدمه النائب إليوت إل. انجل، في 17أكتوبر2019. بهدف فرض عقوبات وقيود على الغزو العسكري التركي لشمال سوريا، يتعلق بعضها بالتأشيرات وحظر أصول مسؤولين أتراك وآخرين على صلة بالغزو، ومن قدموا خدمات أو تكنولوجيا دفاعية لتركيا يمكن استخدامها في الغزو. بالإضافة الى فرض عقوبات مالية على بنك “خلق” المملوك للحكومة التركية على القائمة السوداء وأي مؤسسات مالية سهلت معاملات للقوات التركية وصناعة الدفاع المتعلقة بالغزو. ونص المشروع على فرض عقوبات على الحكومة التركية بموجب قانون مكافحة خصوم أمريكا، وحظر نقل أي مواد أو خدمات أو تكنولوجيا دفاعية أمريكية إلى الحكومة التركية مشمولة بقانون مراقبة تصدير الأسلحة أوقد تستخدمها تركيا بشمال سوريا. 

ويحظر القانون على الرئيس ممارسة سلطات التنازل في حالات الطوارئ المتعلقة بقانون مراقبة تصدير الأسلحة فيما يتعلق بهذا الحظر، كذلك يدعو المشروع إلى تقديم تقارير حول تأثير الغزو على الأمن القومي، وكشف تفصيلي لثروات الرئيس التركي “أردوغان” وعائلته. هذا وقد تم تمرير المشروع عبر الكونغرس بتاريخ 30 أكتوبر2019، ويناقش الان في مجلس الشيوخ تمهيدًا لعرضه على الرئيس واقراره. وجرى تقديم عدة مشروعات قوانين أخرى للكونجرس الأمريكي خلال شهر أكتوبر 2019، وأبرزها قانون تعزيز الأمن القومي الأمريكي ومنع عودة ظهور داعش لعام 2019، وهو يتعلق بوقف النشاط التركي في سوريا والمهدد لعودة خطر تنظيم داعش للساحة من جديد. كذلك قانون مكافحة الاعتداء التركي الأول لعام 2019، والذي يتناول التهديدات العدائية التركية للمصالح الامريكية في سوريا، وقد تم تقديم مشروع قانون مكافحة الاعتداء التركي الثاني لعام 2019، ليطرح تعاطي أكثر تصعيدًا ضد أنقرة. وفي الوقت الراهن يتم مناقشة تلك القوانين داخل لجان الكونغرس المختلفة تمهيدًا للتصويت عليها. 

إشكالية تطبيق العقوبات الامريكية على تركيا

يُعد إنفاذ الحزم التي يجري الاعداد لها من عقوبات ضد تركيا إشكالية كبرى للإدارة الامريكية، والتي أدخلت تركيا منذ سنوات الى دائرة اهتمامها بالمنطقة وجعلته شريكًا بأهم البرامج الاقتصادية والسياسية بالشرق الأوسط كالتصنيع العسكري المتطور، والتحرك سياسيًا بشكل يجعلها وكيل سياسي إقليمي للسياسات الامريكية في سوريا، بل وأصبحت تنجز المهام التي تريدها واشنطن دونما قدرتها على تصدر المشهد كالتفاوض بشأن سوريا مع إيران وروسيا في اعقاب الانسحاب الأمريكي منها. ومع خروج “أردوغان” على النسق الذي رسمته واشنطن له في سوريا تظل العقوبات الامريكية القادرة على ردع السلوك التركي مقترنةً بعدة تداعيات خطيرة مُحتملة. ويمكن تناولها فيما يلي:

  • انهيار النظام التركي: وبقراءة المشهد الحالي للداخل التركي، تعلم واشنطن أن الاقتصاد التركي يواجه تحديات متصاعدة خصوصًا مع تراجع معدلات النمو وتزايد مؤشرات التضخم، وتراجع سعر الصرف لليرة التركية مقابل الدولار. وسياسيًا، فإن السياسات الداخلية تدفع نحو تراجع قبول نظام العدالة والتنمية، وتشجع المزيد من الانقسام بين قواعده، فضلاً عن موجات الاعتقال وتقييد الحريات المهددة لاستمرار “أردوغان” بالسلطة. وعليه، فإن فرض عقوبات جديدة قد يمثل خطورة إذ ما دفعت نحو انهيار النظام التركي، بما يُصدر عدة إشكاليات متصاعدة التهديد بالنسبة للمصالح الامريكية وأمن أوروبا. لذا فهو سيناريو مُستبعد وتسعى واشنطن لتجنبه.
  • تطرف أنقرة شرقًا: وهو ما يرتبط باتجاه تركيا نحو توثيق علاقاتها مع الجانب الشرقي (إيران وروسيا)، ويعني بالأساس التهديد المباشر لمصالح واشنطن في كلاً من سوريا والعراق، وتسريب تقنيات التصنيع العسكري المملوكة لديها إلى الحلفاء الجدد. فضلاً عما سيمثله ذاك الاتجاه من تهديد لأوروبا بتقدم روسيا واقترابها من منطقة عمليات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، تزامناً مع انتهاء سريان معاهدة حظر الرؤوس النووية المتوسطة والبعيدة دون أي خطوات إيجابية نحو تجديدها. وستلعب العلاقات التركية الروسية دورًا هامًا في تحديد أي مسار ستتجه واشنطن نحوه؛ إذ يعني تطبيق عقوبات مشددة على أنقرة إتاحةً للساحة أمام موسكو للتقارب منها أكثر بشكل يُصدر إشكاليات عدة للولايات المتحدة والحلفاء الأوروبيين. وهو سيناريو أقل ترجيحًا؛ كون تلك الخطوات ستدفع واشنطن بشكل مباشر نحو استباق التحرك التركي وتقويض بقاء “أردوغان” على رأس النظام، كما يُعتقد أن هذا السيناريو سيكون عامل بالغ الأثر على تحرك أوروبا لرفع العقوبات عن تركيا لحفظ أمنها وتماسك الناتو.
  • استثمار أوراق الضغط التركية: بمعنى توظيف “أردوغان” لقضايا كاللاجئين والتنظيمات الإرهابية في سوريا والمقاتلين الأجانب المعتقلين لديه؛ لتصدير أزمات لأوروبا ودفعها للسعي نحو تعديل الموقف الأمريكي أو تجاوز آثار العقوبات بدعم أوروبي. كذلك شن حرب شاملة ضد الأكراد شمالي سوريا والعراق أو الايعاز للفصائل الموالية له لاستهداف المصالح والاهداف الامريكية؛ لإلزام واشنطن برفع تلك العقوبات حرصًا على مصالح الاستراتيجية. وهو سيناريو مُرجح وبقوة، وتلعب أنقرة دورًا بالغ الأثر في توظيف أدواتها المختلفة لتنفيذ تلك الخطوات لإثناء المشرع الأمريكي والإدارة الامريكية عن التفكير في إنفاذ تلك المشروعات العقابية.

ومُجمل القول، فإن العقوبات الامريكية على تركيا -المطبقة والقادمة- ستظل رهن التعطيل دون تطبيق فعلي؛ كونها تهدد بقاء النظام المعروف اتجاهاته وخطواته، والذي يُمكن إدارة اتصالات معه وتعديل سلوكه مقابل تحويلات تستطيع واشنطن دفع أوروبا لتحملها حرصًا على أمنها. ولكن استمرار “أردوغان” في تحركاته بالشمال السوري، واستهداف الفصائل الموالية له لأهداف أمريكية كما جرى الاثنين 4نوفمبر2019 بـ “تل تمر” سيدفع الإدارة الامريكية للتفكير بجدية نحو فرض عقوبات أكثر تشددًا؛ لتحقيق الردع وحفظ هيبتها وإرضاء الداخل الأمريكي، وهو ما يعني بالأساس هز الاقتصاد والنظام السياسي التركي، وربما بدء الترتيبات لاستبدال نظام العدالة والتنمية. 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى