
صندوق الثروة السيادي المصري في ضوء التجارب الدولية
أصدر رئيس الجمهورية في أغسطس 2018 قراره بالقانون رقم 177 لسنة 2018 بشأن إنشاء صندوق مصر السيادي، ثم في مارس 2019، نشرت الجريدة الرسمية قرار رئيس الوزراء بإصدار اللائحة التنفيذية لهذا القانون والنظام الأساسي لـ”صندوق مصر” متضمنا أهداف الصندوق. تلي ذلك إعلان وزارة التخطيط عن أنه من المتوقع إطلاق الصندوق الأول من نوعه في مصر بداية عام 2020 رسميًا، وذلك بغرض إدارة الأصول غير المُستغلة من أراض ومبان حكومية، بالشراكة مع القطاع الخاص والصناديق السيادية العربية والأجنبية.
لكن ما أثر الجدل هو طبيعة الصندوق نفسه حيُث تُنشئ الصناديق أساسًا بغرض استيعاب فوائض الثروة سواء تلك الناتجة عن النشاطات اللوجستية الكبيرة مثلما هو الحال في سنغافورة، أو إنتاج وتصدير النفط، أو فوائض ميزان المدفوعات الناتجة عن التصدير الضخم، حيث لا يتوافر في الأحوال العادية المُناخ الاستثماري المُناسب لاستيعاب هذه الفوائض في الاقتصادات المحلية، وهو وضع معكوس في مصر حيث لا تُحقق الدولة أيًا من تلك الفوائض بل تُعاني عجوزات مستمرة في موازنتها العامة أو ميزانها التجاري والجاري، كذلك فإن البيئة الاستثمارية المحلية في أوجها وفي حالة تعطش للاستثمارات سواء المحلية أو الأجنبية. من هنا يهدف هذا المقال مفهوم صناديق الثروة، ثم عرض تجارب بعض الصناديق بحيث نضع التجربة المصري في سياقها الصحيح بهدف الإجابة على الاستفسارات المطروحة.
أولًا- صناديق الثروة ماهيتها، أهدافها وأنواعها
- ماهيتها:
تُعرف صناديق الثروة السيادية بأنها أدوات استثمار حكومية مكونة من أصول مالية من أسهم وسندات وغيرها من الأدوات المالية على أت تُشكل موارد الصندوق من فائض ميزان المدفوعات أو الموازنة العامة أو نواتج عمليات الخصخصة أو إيرادات الصادرات السلعية، كما عرفها الأونكتاد على أنها: قنوات رأسمالية تُسيطر عليها الحكومة وتستثمر من خلالها أصولها في الأسواق الأجنبية.
- أنواعها:
تتنوع الصناديق السيادية إلى عدة أنواع أهمها:
- صناديق الموارد الأولية:
صناديق تكونها الدول ذات الموارد الأولية الضخمة، كالبترول وغيره، بحيث توفر لها طُرق استثمار لهذه الموارد التي تتسم بالنضوب وعدم التجدُد، ومن أهمها صناديق الثروة السيادية في دول الخليج العربي.
- صناديق فوائض ميزان المدفوعات الجارية:
وذلك بسبب استمرار بعض البُلدان الصناديق في مُراكمة فوائض ضخمة ناتجة عن التجارة الخارجية وذلك لما تتمتع به من ميزات تنافسية، حققت مبالغ ضخمة تفوق حاجات السوق المحلية، وخاصة دول جنوب شرق أسيا وبعض دول أمريكيا اللاتينية.
- صناديق الخصخصة:
دخلت الكثیر من الدول في برامج واسعة لخصخصة القطاع العام أدت إلى ضخ عوائد مالي ضخمة، تباينت استعمالات الدول لهذه العوائد، حيث وجهت بعضها مباشرة لتمویل المیزانیة العمومیة وفي بعض الأحیان لتمویل برامج إعادة هيكلة الاقتصاد وسداد الديون، ونظرا لضخامة هذه العوائد وتخوفا من أن تقود إلى توسع كبير في الإنفاق العمومي يكون أكبر من الطاقة الاستيعابية للاقتصاد، أدخلت بعض الدول هذه العوائد إلى صناديق سيادية لاستغلالها.
- أهدافها:
من التعريف السابق اتضحت بعض أهدافها لكن هناك بعض الأهداف الأخرى التي لم ترد في التعريف وجب إلقاء الضوء عليها، ومن أهمها ما يلي:
- حماية الاقتصاد الوطني بالكامل والموازنة العامة على وجه الخصوص من خطر الصدمات الخارجية والمُتمثلة في ارتفاع أسعار النفط أو ارتفاع أسعار الفائدة العالمية بالنسبة للاقتصاد المصري، وذلك بتوفير موارد بديلة للموارد التي ارتفعت تكلفة توفيرها.
- تحقيق عدالة توزيع الثروة بين الأجيال عن طريق تعظيم الادخار الموجه للأجيال القادمة، وخاصة في ضوء ما تُعاني منه الدولة المصرية من ارتفاع لمُعدلات الديون بلغت حوالي 4.2 تريليون جنيه كدين عام إجمالي.
- تنويع هيكل الإيرادات بحيث يقل الاعتماد على صادرات الطاقة غير المُتجددة من نفط وغاز طبيعي، حيث من المُفترض أن يوفر الصندوق عوائد دورية تكون بديلة لهذه الموارد في المديين المتوسط والبعيد.
- تحقيق نمو مُستدام يُعظم العائد دونما ارهاق لمُقدرات البلاد الاقتصادية.
ثانيًا – بعض التجارب السابقة
أنشئ أول صندوق ثروة سيادي في العالم بالكويت عام 1953 باسم “هيئة الاستثمار الكويتية” ويُطلق عليها حاليًا الهيئة العامة للاستثمار، توالى انشاء هذه الصناديق بعد ذلك حتى بلغ عددها الآن أكثر من عشرة آلاف صندوق حول العالم تختلف أغراض إنشائها وكيفية إدارتها حسب طبيعة كُل صندوق، ويأتي على رأسها من حيث حجم الأصول صندوق المعاشات الحكومي النرويجي بإجمالي أصول تبلغ قيمتها 1.09 تريليون دولار، يحل في المركز الثاني مؤسسة الاستثمار الصينية بأصول 940.6 مليار دولار، تليه هيئة أبو ظبي للاستثمار بـ 696.6 مليار دولار، فهيئة الاستثمار الكويتية بإجمالي 592 مليار دولار، ويوضح الشكل التالي أكبر عشرة صناديق من حيث الأصول.

يتضح من الشكل أن الصناديق العشرة الأولى من بينها أربعة تمول بطريق الفوائض النفطية وهي التي تتواجد في النرويج وأبو ظبي والكويت وقطر، بينما ثلاثة تمول عن طريق وفورات الميزان التُجاري وجميعها صينية، بينما الثلاثة الباقية تمول عن طريق عوائد النشاط اللوجيستي وتتركز في هونج كونج وسنغافورة، ونتعرض فيما يلي للحمة عن كُلًا منها:
- صندوق المعاشات النرويجي Norway Government Pension fund:
اكتشف النفط النرويجي عام 1969 في بحر الشمال، وبحلول عام 1990 أصدر البرلمان قانون إنشاء الصندوق ليمول في الأساس عن طريق التحويلات الحكومية من الفوائض النفطية، وقد أنشئ الصندوق لإعطاء هامش مناورة للحكومة في السياسة المالية في حالات انخفاض أسعار النفط، بالإضافة إلى اعتباره كأداة لإدارة التحديات المالية الناتجة عن شيخوخة السكان والانخفاض المتوقع في إيرادات النفط على المدى الطويل. وصُمم الصندوق ليُستثمر على المدى الطويل، وبحلول عام 1996 أجرت الحكومة فعلًا أول تحويل مالي للصندوق، ثم في عام 1998 أسست الحكومة النرويجية بنك Norges Bank Investment Management في 1 يناير لإدارة الصندوق نيابة عن وزارة المالية.
وتبلغ القيمة المالية للصندوق 1.092 تريليون دولار كانت قد بدأت في عام 1998 عند تأسيس البنك المسئول عن إدارته بما إجماليه 23 مليار دولار فقط أي أن الصندوق أدر في المتوسط عوائد نسبتها 5.9% سنويًا على قيمة الدولار، ويستثمر الصندوق في جميع أنواع الشركات حيث امتلك حصص صغيرة في أكثر من 9000 شركة في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك شركات مثل Apple وNestlé وMicrosoft وSamsung. وفي المتوسط، يمتلك الصندوق 1.4 في المائة من جميع الشركات المدرجة في بورصات العالم، إذ تنتشر استثماراته في معظم الأسواق والبلدان والعملات لتحقيق تعرض واسع النطاق للنمو العالمي بما يخلق أكبر قيمة مُمكنة، وتضمن تنويع المخاطر بشكل جيد.

هذا ويتوقع الصندوق أن تبلغ أصوله بحلول عام 2025 ما إجماليه 1.34 تريليون دولار، وإن كانت نتائج أدائه في 2019 قد تجاوزت ما توقعه الصندوق خلال عام 2020، بل واقتربت من تحقيق ما توقعه في 2021، ويوضح الجدول التالي توقعات الصندوق في عام 2018:

- جهاز أبو ظبي للاستثمار:
أنشأت إمارة أبو ظبي في عام 1967 مجلس الاستثمارات المالية والذي كان يعمل تحت رئاسة وزارة المالية، مع كونه مسؤولاً عن إدارة إيرادات النفط الزائدة في الإمارة. وبحلول عام 1976، اتخذ الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الرئيس المؤسس لدولة الإمارات العربية المتحدة وزعيم أبو ظبي قرارًا بتأسيس هيئة أبو ظبي للاستثمار بدلاً من ذلك وفصلها عن الحكومة كمؤسسة مستقلة ذات إدارة خاصة، وذلك بهدف استثمار فوائض حكومة أبو ظبي في مُختلف أنواع الأصول ذات المخاطر المنخفضة، حيث كانت الاستثمارات الحكومية قد تركزت في الذهب والدين قصير الأجل.
يتلقى جهاز أبو ظبي للاستثمار أموال حكومة أبو ظبي من أجل إعادة استثمارها بما يُحقق المصلحة العامة للإمارة، وتُعتبر الأصول في الأساس نقل مالي، ولذلك فإن عملية تخصيص وتحويل عائدات جهاز أبو ظبي للاستثمار لم يتم الكشف عنها ولا توجد قواعد لإسائها أو ترتكز على القانون، لكن الجهاز أعلن أنه يتلقى أمواله من ثلاثة مصادر، فوائض الموازنة التي تنشأ من وجود فائض من عائدات النفط، دخل الاستثمار من عائدات جهاز أبو ظبي للاستثمار لإعادة استثمارها من قبل الصندوق، وأخيرًا شركة بترول أبو ظبي الوطنية.
ويُدير جهاز أبو ظبي للاستثمار مجموعة متنوعة من الاستثمارات العالمية عبر أكثر من عشرين فئة من فئات الأصول والفئات الفرعية، حيث تستثمر مباشرة في الأسواق المالية العالمية، إلى جانب عدد كبير من الشركاء الموثوق بهم ومن خلال شبكة من المديرين الخارجيين المختارين بعناية، ويوضح الشكل التالي استراتيجية توزيع الأصول التي يتبعها الجهاز:

ثالثًا – صندوق مصر
أعلنت وزارة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري في مايو 2019، الحالي عن أن يكون رأس مال الصندوق المرخص به 200 مليار جنيه مصري، ورأس ماله المصدر خمس مليارات جنيه مصري، يُسدد منه مليار جنيه من الخزانة العامة للدولة عند التأسيس، ويسدد الباقي وفقا لخطط فرص الاستثمار المقدمة من الصندوق خلال ثلاث سنوات من تاريخ التأسيس. وأشارت الوزارة أيضًا إلى أن موارد الصندوق تشمل أيضاً الأصول التي تنتقل ملكيتها للصندوق وفقا لأحكام القانون، كما تشمل عائدات وإيرادات استثمار أموال الصندوق واستغلال أصوله، بالإضافة إلى العائدات المرتقبة من إسهامه في أي من الصناديق الاستثمارية أو الشركات الأخرى.
ويهدف الصندوق إلى المساهمة في التنمية الاقتصادية المستدامة من خلال إدارة أمواله وأصوله وتحقيق الاستغلال الأمثل لها وفقا لأفضل المعايير والقواعد الدولية لتعظيم قيمتها من أجل الأجيال القادمة، وله في سبيل ذلك التعاون والمشاركة مع الصناديق العربية والأجنبية النظيرة والمؤسسات المالية المختلفة، وقد حددت المادة (7) من القانون رقم 177 لسنة 2018 بإنشاء صندوق مصر السيادي، اختصاصات الصندوق التي تمثلت في الآتي:
- المساهمة بمفرده أو مع الغير في تأسيس الشركات أو في زيادة رؤوس أموالها.
- الاستثمار في الأوراق المالية المقيدة بأسواق الأوراق المالية وغير المقيدة بها وأدوات الدين وغيرها من الأوراق المالية داخل جمهورية مصر العربية أو خارجها.
- الاقتراض والحصول على التسهيلات الائتمانية وإصدار السندات وصكوك التمويل وغيرها من أدوات الدين.
- شراء وبيع وتأجير واستئجار واستغلال الأصول الثابتة والمنقولة والانتفاع بها.
- إقراض أو ضمان صناديق الاستثمار والشركات التابعة التي يملكها أو يساهم فيها مع الغير.
- ويحدد مجلس إدارة الصندوق صلاحيات الاستثمار والتعاقد والإقراض والاقتراض والإنفاق في ضوء الضوابط والحدود الواردة بالنظام الأساسي، بما يحقق أغراض الصندوق.
وعلى عكس جميع الصناديق السابقة فإن صندوق مصر يعتمد في الأساس على الثروة العقارية وعوائد استغلالها وبيعها، حيث تمتلك الشركات الحكومية أصول عقارية ضخمة للغاية وأغلبها مُهمل، وذلك وفقًا لتصريح هشام توفيق وزير قطاع الأعمال المصري الذي صرح بأنه عند حصر الأصول والأراضي غير المستغلة المملوكة للشركات التابعة للدولة، تبين أنها تصل إلى 280 قطعة أرض، بإجمالي مساحات تصل إلى 25 مليون متر مربع، وفق آخر حصر في أبريل الماضي، علاوة على شركة مصر لإدارة الأصول العقارية التابعة للصندوق، لديها ثروة عقارية لا بأس بها، ويتميز أغلبها بالطابع الأثري التاريخي والطرازات المعمارية العتيقة، ويصل إجمالي القيمة السوقية لمحفظتها العقارية بالكامل نحو 8 مليارات جنيه (نحو 480 مليون دولار أميركي) إلى جانب 680 عقارا من بينهم 15 عقاراً ذا طابع معماري، علاوة على آلاف الوحدات السكنية في 350 عمارة من العمارات القديمة بمنطقة وسط البلد، منها 150 عمارة في القاهرة الخديوية في شوارع عريقة، مثل شارع طلعت حرب وقصر النيل وسليمان الحلبي ورمسيس وعبد الخالق ثروت وغيرها، معظمها تم تشييده في النصف الأول من القرن الماضي، وتلك ثروات مهدرة”، واختتم وزير قطاع الأعمال المصري حديثه قائلا “بعض هذه الأصول ستدخل ضمن الصندوق السيادي الجديد”.
مما سبق يتضح أن الصندوق السيادي المصري بخلاف الصناديق السيادية الأخرى سيعتمد على الثروة العقارية للحكومة والتي تُمثل قيمة سوقية تُقدر بمليارات الدولارات ولكنها في ذات الوقت مُهدرة أو لا يتم استغلالها بالشكل المُناسب، حتي تتحقق عوائد حقيقية ملموسة من هذه الثروات تساعد في سد عجز الموازنة العامة والتغلب على التقلبات العالمية في أسعار النفط والفائدة، وأخيرًا تحتفظ بنصيب الأجيال القادمة في الثروات الحالية.