
“حرب السويس ” .. ترسم سياسة مصر الخارجية وتنهي استعمارا بريطانيا
في مثل هذا الوقت منذ 63 عاماً، برهن الشعب المصري وقواته المسلحة على بسالته في الوقوف ضد العدوان الغاشم الذي قادته ثلاث دول لتحقيق أهدافهم الاستعمارية في مصر والمنطقة، وشنت كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل هجوما على مدن مصر الثلاث، وتكتلت القوى العظمى ضد مصر الأبية في التاسع والعشرين من أكتوبر من عام 1956، لتعلن العدوان الثلاثي على مصر أو حرب السويس أو حرب 56، وهي الحرب الثانية التي قامت بها إسرائيل بعد حرب فلسطين 1948 في المنطقة، وسط مطامع إستعمارية ودعوات بأن مصر تهدد مصالحهم في المنطقة، فقابلها الشعب والجيش المصري بروح المقاتل الجندي المدافع عن أرض الوطن، وفي ذكرى الحرب آن لنا أن نعرف الأهداف وراء الهجوم، والموقف الدولي منها، وخلفيات الأمر، وكيف تصدى الشعب المصري ووقف بجانب جيشه؟
أهداف استعمارية وراء العدوان الثلاثي
إعلان تأميم قناة السويس:

ألهب خطاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في ميدان المنشية بالإسكندرية في 26 يوليو من عام 1956 حماس الجماهير، وهز العالم عقب إعلانه تأميم شركة قناة السويس شركة مساهمة مصرية، وذلك من أجل توفير تمويل السد العالي عقب مماطلات البنك الدولي ومحاولات إخضاع مصر لتنفيذ استراتيجيتهما في المنطقة، ومحاولات فرنسا – صاحبة إدارة قناة السويس- بتمديد عقد امتياز القناة عشرين سنة أخرى أو تأسيس شركة جديدة تحصل على امتياز جديد مع إهمال أعمال تطوير القناة، مما أثار التخوفات المصرية من فقد ميزة القناة، إلى جانب التخوف الأوروبي من تزايد نفوذ عبد الناصر في المنطقة، وبخطاب ناري سبقه كلمة “دليسيبس” أعلن التأميم، وهو الأمر الذي اعتبرته بريطانيا تهديداً لمصالحها عقب جلاء آخر جندي بريطاني من على أرض مصر عام 1955، حيث اعتبره مجلس العموم البريطاني ممر دولي وطالب بابعادها من سيطرة عبد الناصر، ومثلت القناة أهمية كبرى للتجارة البريطانية وعبور سفن البترول وأنها طريق لدول الكومنولث، إلى جانب مرور قواتها العسكرية عبرها، وكونها صاحبة أكبر حصة من الأسهم في القناة بإجمالي 44%.
واعتمد السيناريو المصري على التركيز على أهمية القناة في تمويل السد، وأن القناة جزء لا يتجزأ من مصر وخرزج النفوذ الأجنبي عقب توقيع اتفاقية الجلاء.
أما الجانب الأمريكي، فاتخذ موقفاً غير معلن وأرجع البعض الموقف الامريكي المحايد لانشغاله بالانتخابات الرئاسية آنذاك، كما أن القناة لا تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الأمريكي كما الحال في أوروبا، ولا تمتلك حصص في أسهم الشركة الفرنسية.
وعقب التأميم فرضت بريطانيا عقوبات اقتصادية وتجميد أرصدة مصر في البنوك لمحاولة تقويضها، إلى جانب الخطوات الدبلوماسية، والتي اتفقت الأهداف البريطانية والفرنسية في وضع الخطة العسكرية باسم “ماسكتير أو الفارس” ضد مصر عقب قرار التأميم من خلال الهجوم على الإسكندرية، ورفضت بريطانيا في بادئ الأمر التدخل الإسرائيلي متخوفة من رد الفعل العربي المضاد.

لم تكن أزمة تأميم قناة السويس وليدة اللحظة، ولكن مع تحرر مصر من هيمنة الاستعمار عقب قيام ثورة يوليو 1952، وتوقيع اتفاقية الجلاء البريطاني عن مصر عام 1954، هي امتداد للصراع الطويل بين مصر والقوى الأجنبية التي هددت مصالحها في المنطقة، بجلاء آخر جندي بريطاني عن مصر عام 1955، وبدأت مصر في تشكيل سياستها الخارجية المستقلة بعيدا عن القوى الأجنبية، والتي عززها رفض مصر الانضمام إلى حلف بغداد الذي تم تشكيله في العام نفسه في محاولة بريطانية لفرض هيمنتها وإعادة نفوذها في المنطقة، وشكلت مصر قوى برفض الانحياز أو الانضمام لأي من الأحلاف ودعت الدول العربية إلى ذلك؛ مما زاد من الحنق البريطاني على مصر، باعتبارها تقف أمام تمدد السيطرة البريطانية على المنطقة، واصبح العداء البريطاني معلن على صفحات الجرائد في ذلك الوقت.
وحاولت اسرائيل تهديد اتفاقية الجلاء، وذلك في محاولة للحفاظ على عبور مرورها من خلال قناة السويس تحت الحماية البريطانية، فأحكمت مصر سيطرتها على السفن الأسرائيلية المارة عبر قناة السويس أو خليج العقبة، وهو ما اعتبرته اسرائيل ذريعة للتدخل إلى جانب مطامعها الاستعمارية في سيناء، فزادت من هجماتها على قطاع غزة الخاضع للإدارة المصرية آنذاك، والذي قابله رد مصري بمنع مرور سفنها باعتبار مصر دولة ذات سيادة تتحكم في موانيئها، مما زاد من تخوف اسرائيل من قضاء مصر على الكيان الصهيوني في المنطقة، فاتخذت من فكرة تأميم قناة السويس ذريعة للحصول على التأييد والدعم الغربي للقضاء على القوات الموجودة في سيناء.
مساعدة مصر للجزائر في ثورتها ضد فرنسا:

لم يكن تأميم مصر لقناة السويس هو الذريعة الوحيدة للتحالف العسكري ضد مصر، ولكن عقب ثورة يونيو 1952، وهخي فترة التقارب المصري الجزائري، والتي أخذت مصر على عاتقها مهمة تحرير الجزائر من الاستعمار الفرنسي من خلال تقديمها الدعم المالي والعسكري للجزائر في كفاحها ضد الاستعمار، كما شنت حملات إعلامية توضح معاناة الجزائر في ظل الاحتلال، إلى جانب الدعم الدبلوماسي المقدم من مصر في كافة المحافل الدولية، فعمدت فرنسا على تسليح وتقوية إسرائيل، لخلق كيان يهدد أمن المنطقة.
التسليح المصري بالاتفاق مع الاتحاد السوفيتي:
عقب اتفاقية الجلاء طلبت مصر الأسلحة من الغرب فماطلت بريطانيا، وساومت فرنسا مصر أن تتخلى عن الجزائر وزودت إسرائيل بالأسلحة، وأصرت الولايات المتحدة على ارتباط مصر بشبكة الدفاع الغربية للشرق الأوسط، في حين زودت العراق بالأسلحة، وفي ظل تزايد التسلح الإسرائيلي والمماطلة الغربية، لجأ عبد الناصر إلى الاتحاد السوفيتي والذي وجد فيه الأخير فرصة لمواجهة حلف بغداد الذي يهدد تمدده، ومحاولة ايجاد نفوذ له في المنطقة ضد القوى الكبرى الأخرى المتمثلة في الولايات المتحدة، من خلال صفقة أسلحة مصرية تشيكوسلوفاكية لتجنب المواجهة المباشرة مع الغرب، وهو ما رأته الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا اتجاه نحو سباق التسليح في الشرق الأوسط، وحاولت الدول الثلاث اثناء القاهرة عن قرارها دون تقديم التسليح البديل، واعتبرته بريطانيا خلافاً لاتفاقية الجلاء.
بداية العدوان على مصر:
في ضوء الخلفيات السابقة، قامت الدول الثلاث بإجراء مناورات وخدع استراتيجية من خلال إعطاء الامل في الحل السياسي، وإثارة إسرائيل للقلائل في الأردن كوسيلة خداع عن هدفها الاساسي في الهجوم على مصر، وفي يوم 29 أكتوبر من عام 1956 نفذت إسرائيل برتوكول سيفرز – المنعقد في مدينة سيفرز الفرنسية والذي استمر يومان من 22 : 24 أكتوبر لتنظيم رد عسكري على مصر – وكان من المخطط تنفيذ الهجوم يوم 6 نوفمبر حتى الانتهاء من الانتخابات الأمريكية، ولكن بدأت المؤامرة في 29 أكتوبر 1956، عندما هبطت القوات الإسرائيلية في سيناء لتنفيذ هدفها الأساسي نحو تدمير القوات في سيناء، واتجهت إلي قناة السويس، في محاولة لإيهام العالم أن الملاحة مهددة في القناة.
أصدرت فرنسا وبريطانيا في 30 أكتوبر إنذاراً يطالب بوقف القتال، وانسحاب مصر وإسرائيل لمسافة 10 كم عن القناة، وقبول احتلال مدن القناة بواسطة الدولتين بريطانيا وفرنسا، بغرض حماية الملاحة الدولية، ورفضته مصر.
وفي 31 أكتوبر هاجمت الدولتان مصر لاستكمال برتوكول سيفرز، بشن غارات جوية مكثفة علي القاهرة والإسكندرية، وحتى لا تتشتت القوات المصرية بين جبهة سيناء وجبهة القناة، تم سحب القوات من القناة والإسكندرية.
المقاومة الشعبية سر انجاح خطة مصر للتصدي ضد العدوان:

وفي 5 نوفمبر بدأ العدوان الأنجلوفرنسي بالغارات الجوية على بورسعيد، في محاولة للسيطرة على مدن القناة، وأحرقت القوات البريطانية حي المناخ بأكمله بالنابالم، وفي حي العرب، دمروا بالطائرات منطقة الجمرك القديمة، وعدد من العمارات السكنية، وتم الإنزال المزدوج البريطاني، في مطار الجميل غرب المدينة، بينما كان الإنزال الفرنسي في منطقة الرسوة جنوب بورسعيد، بجانب الإنزال البرمائي البحري، والإنزال بالهليكوبتر البريطاني.
وأمام الإصرار المصري علي التصدي للعدوان والوقوف ببسالة أمام الدول الاستعمارية ومنعها من فرض سيطرتها، ضرب أهل بورسعيد مثالًا للمقاومة الشعبية، التي تمكنت من تكبيد العدوان خسائر كبيرة في حرب شوارع وعمليات فدائية منظمة؛ لإفقاد قوات العدو قدراته، وتم التخطيط لها وفقا لتنظيم محكم، من قيادات الجيش المصري، مما بث الرعب بين صفوف العدوان، بالرغم من تفوقها في العدد والسلاح.
نجحت المقاومة في خطف الضابط “أنطوني مور هاوس”، ابن عمة الملكة أليزابيث، ملكة إنجلترا، واغتيل الماجور جون وليامز، رئيس مخابرات القوات البريطانية في بورسعيد.
وقامت المقاومة، بالتعاون مع مجموعة الصاعقة بمهاجمة الدبابات البريطانية بالصواريخ في شوارع بورسعيد، وتمكنت المقاومة من مهاجمة مقر كتيبة بريطانية، ومهاجمة الدوريات الراكبة والسائر لقوات العدوان، بالقنابل اليدوية، وهو ما كبد القوات المهاجمة خسائر كبيرة، تسببت في فضيحة عالمية للدول المهاجمة.
حركت المقاومة الشعبية العالم ضد القوات المعادية، وقامت الدول العربية بمساندة مصر أمام العدوان، وقامت بنسف أنابيب البترول، إلى جانب تحركات مصر الدولية التي مكنها من اقتناص قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2 نوفمبر بوقف القتال، ولم تستجب له قوات العدوان، حتى إنذار موسكو في 3 نوفمبر، باستخدام القوة النووية، في حال استمرار العمليات القتالية، كان له تأثير كبير، فقد أصبح العالم علي محك حرب عالمية ثالثة.
وهو ما جعل الولايات المتحدة، تتراجع عن موقفها المساند للعدوان، وأدي لوقف التغلغل القوات المهاجمة، وقبول إنجلترا وفرنسا وقف إطلاق النار، في 7 نوفمبر، كما أدى تلاحم الجيش والمقاومة الشعبية نحو دحر العدوان إلى تكبد العدو خسائر فادحة خلال يوم 6 نوفمبر وتمكنت من تثبيت العدو داخل منطقة رأس الشاطئ ومنعته من تأمينها وعرقلة انطلاقه صوب الإسماعيلية، والتي سبقها تثبيت قوات الإبرار الجوي الأنجلو-فرنسي طوال يوم 5 نوفمبر، وهو ما دفع الدول الثلاث لقبول وقف إطلاق النار.
وكانت للإذاعة المصرية دوراً في بث الروح الفدائية في المقاومة الشعبية من خلال تواصل عبد الناصر بالشعب، فعمدت القوات على تدمير محطات الإرسال المصرية. ولكن بادرت إذاعة دمشق مواصلة رسالة الإذاعة المصرية مستهلة إذاعتها بعبارة “هنا القاهرة”، ونادى جمال عبد الناصر من فوق منبر الجامع الأزهر “سنقاتل .. سنقاتل”.
وقف إطلاق النار، وانعكاسها على التوازن الدولي:
في 22 ديسمبر وتحت الضغوط الدولية، والفضيحة التي كشفت المؤامرة علي مصر، أنزل العلم البريطاني من فوق هيئة قناة السويس ببورسعيد، وانسحبت القوات المعادية من بورسعيد.
وفي 23 ديسمبر تسلمت السلطات المصرية، مدينة بورسعيد واستردت قناة السويس، وهو اليوم الذي أصبح عيداً قومياً لمدينة بورسعيد تحت اسم “عيد النصر”.
على صعيد آخر، حسمت حرب السويس ما
أسفرت عنه الحرب العالمية الثانية من نتائج، وأرست دعائم النظام الذي برز في أعقاب
الحرب، فأنهى التواجد الاستعماري التقليدي لبريطانيا وفرنسا وأفقدها تواجدها في
الشرق الأوسط تباعاً، وبدأت حركات التحرر في الشرق الأوسط وإفريقيا، وحلت محلها
الولايات المتحدة كلاعب منفرد على الساحة الدولية لدور حارس المصالح الغربية
بالشرق الأوسط، فقبلت باستقلال دول المنطقة وبحياد نسبي لكن مع إصرارها على ربطهم
بعجلة الغرب.
باحثة بالمرصد المصري