
اللجنة الدستورية … فُرص الحل السياسي للأزمة السورية
عقدت اللجنة الدستورية السورية اليوم اجتماعها الأول بمقر الأمم المتحدة بالعاصمة السويسرية جينيف، برعاية الدول الضامنة لعملية أستانا والبعثة الأممية لسوريا بقيادة المبعوث الخاص الى سوريا “غير بيدرسون”. وهو ما يأتي اتساقاً مع تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” حول التوصل لاتفاق حول تشكيل لجنة مناقشة الدستور، 23 سبتمبر الماضي. وبينما يتطلع أطراف الازمة السورية والمنخرطين بها اقليمياً ودوليًا نحو تحقيق خطوات إيجابية عبر تلك الاجتماعات تُفضي الى العودة الى التسوية السياسية للصراع، تبرُز تحديات وسياقات عدة تُهدد تلك المُخرجات المنشودة. وتسعى هذه الورقة لتناول طبيعة اللجنة الدستورية والإطار الزمني المُعلن لعملها، كذا بيان التحديات والسياقات المحيطة بها وما قد تمثله من تهديد على فُرص نجاح أعمال اللجنة، وصولاً الى السيناريوهات المُحتمل الخروج بها مع انتهاء الاجتماعات والمشاورات الُدرجة على جدول أعمال اللجنة الدستورية.
اللجنة الدستورية السورية .. الأطر والمحددات
برزت فكرة تشكيل لجنة دستورية كمحاولة لإيجاد سبيل للتسوية السياسية للصراع السوري المشتعل منذ2011، كأحد مخرجات مؤتمر الحوار الوطني السوري الذي عُقد بمدينة سوتشي، في يناير 2018. وتعاقبت محاولات الوصول الى صيغة تفاهم بين الفاعلين بالصراع السوري والأطراف الدولية المعنية بحل الازمة، وهو ما ركزت البعثة الأممية عليه خلال الفترات اللاحقة حيث أجرى مبعوثي الأمم المتحدة لسوريا “استيفان ديمستوريا” و”غير بيدرسون” جولات من المشاورات مع الأطراف المختلفة كالحكومة السورية والهيئة العليا للمفاوضات السورية والمجتمع المدني السوري والدول الضامنة لمسار آستانة.
واستمرت تلك الاتصالات قُرابة العامين ثم أعلن الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش”،23 سبتمبر 2019، التوصل إلى اتفاق “حول تشكيل لجنة دستورية متوازنة وموثوقة وشاملة”، وأن عملية وضع الدستور “ستترافق بإجراءات ملموسة لبناء الثقة”. ووفقاً للبيانات الأممية فإن اللجنة تتشكل من 150 عضوا، يتمثلون بنسب متساوية الحكومة والمعارضة والمجتمع المدني السوري، برعاية البعثة الأممية والدول الضامنة لمسار آستانة. ومن المقرر تكوين لجنة مُصغرة لصياغة المسودة ووضع مشروع الدستور تمهيدًا للتصويت عليه باللجنة الموسعة، وتتشكل من 45 عضوا، منهم 15 عضوا عن الحكومة، و15 عن المعارضة و15 من المجتمع المدني.
وستكون رئاسة أعمال اللجنة مشتركة بين كلاً من “أحمد نبيل كسبري” عن الحكومة و”هادي البحرة” عن المعارضة، وسيتولى ممثلي الحكومة والمعارضة بشكل أساسي عملية التحاور والتفاوض، كما سيطرح ممثلو المجتمع المدني وجهات نظرهم. وبشكل عام، ستكون قرارات اللجنة الدستورية وفق إجراءات توافقية وليس بالإجماع، تمهيدًا لُطرح ما تم التوصل إليه على التصويت والذي يتطلب موافقة 75% من إجمالي نسبة الأعضاء أي 113 عضوا من أصل 150 بالنسبة للاجتماعات الموسعة، بينما سيتم اتخاذ القرارات بالمجموعة المصغرة بعد موافقة 34 عضوا. وأكد المبعوث الأممي على أن الحضور الدولي سيقتصر على حفل الافتتاح، دونما وجود لهم في اجتماع اللجنة الدستورية السورية الأول.
وانطلقت اجتماع اللجنة الأول اليوم، 30أكتوبر2019، في جينيف بمشاركة كافة أعضاء اللجنة الـ 150، وبدأت الجلسة الافتتاحية بكلمات المبعوث الأممي إلى سوريا “غير بيدرسون”، ورئيس الوفد الحكومي “أحمد الكزبري”، ورئيس وفد المعارضة “هادي البحرة”، وستستمر اللقاءات والاجتماعات الموسعة حتى الجمعة الأول من نوفمبر. وستبدأ اجتماعات اللجنة المصغرة يوم الاثنين 4نوفمبر وتستمر حتى الجمعة 8نوفمبر. وفي حين تم إذاعة الجلسة الافتتاحية فإن باقي الاجتماعات غير متاح للإعلام حضورها أو تغطيتها.
فُرص وتحديات نجاح اللجنة
تقترن اللجنة الدستورية السورية منذ بداية عملها بجُملةً من الفُرص الواعدة، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من رغبة الأطراف المشاركة في إنجاح مسار التسوية السياسية، حيث التعاطي الجاد من قبل الأطراف السورية بالمشاركة في فعاليات اللجنة، وهو ما برز في إعلان “هادي البحرة” عن إعداد مشروع دستور مُكتمل لدي أعضاء المعارضة سيتم طرحه على اللجنة، في دلالة بالغة على الانفتاح على الحوار والاستعداد لتقديم رؤية تساعد في تخطي الازمة. كذا الحضور كامل العدد من كافة المدعوين وعدم وجود أي أساس لما جرى تداوله من أنباء حول انسحاب 10 أعضاء من المجتمع المدني ورفضهم المشاركة في اجتماعات اللجنة، وهو ما نفاه ممثلو المجتمع المدني وأكدوا على أن وفدهم مُكتمل. بالإضافة الى افراج السلطات السورية، مطلع أكتوبر 2019، عن عضو المجلس المركزي في “هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي” وأحد ممثلي المعارضة في اللجنة الدستورية، المحامي “محمد علي صائغ”؛ لإتاحة الفرصة له للمشاركة بأعمال اللجنة، وإبرازاً لحسن نواياها.
كما تظهر إرادة المشاركين في انجاز الاعمال خلال المدة الزمنية المحددة مدفوعةً بعدة عوامل كالظروف الإنسانية التي يُكابدها اللاجئون السوريون بالخارج، والتدخلات الخارجية بالساحة السورية والتي خلفت أضراراً كبرى بالدولة وتهد وحدة وسلامة الدولة الموحدة كالغزو التركي لشمال سوريا، وتفشي خطر الإرهاب على الدولة السورية، فضلاً عن الإعلان الأمريكي باتجاهها نحو السيطرة على النفط السوري. وقد أكد ذلك وزير الخارجية السوري “نبيل المعلم” حيث أشار الى ضرورة أن “تتم كل العملية بقيادة وملكية سورية فقط على أساس أن الشعب السوري هو صاحب الحق الحصري في تقرير مستقبل بلاده دون تدخل خارجي”، كما عبر “البحرة” أن المعارضة لم تطلع المبعوث الخاص، غير بيدرسون، على مشروع دستور المعارضة لأن هذه العملية سورية بين السوريين”.
وتتزامن أعمال اللجنة مع بروز محددات جديدة تمثل تحديًا لأنشطتها كإعلان “الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا” الكردية رفضها لأي نتائج تصدر عن اجتماع اللجنة الدستورية السورية، مُعتبرةً غياب ممثليها باللجنة “إقصاء” و”إنكارا لإرادة 5 ملايين سوري”. كما دعت لتنظيم مسيرات ومواقف احتجاجية ضد عدم تمثيلها باللجنة. فيما أشارت قوى المعارضة الى رغبتها في منح المناطق سلطات إدارية أكبر، بينما تظل القرارات في مجال السياسة الخارجية والسياسة النقدية والدفاع بيد الحكومة المركزية. كما تهدد آلية اتخاذ القرارات “التوافقية” بتعطيل الحوار وانسداد قنوات الحوار إذا ما اتجه أحد الأطراف للتمسك بوجهة نظر بعينها.
السيناريوهات المُحتملة
ترتبط أعمال اللجنة الدستورية بعدة محددات داخلية وإقليمية ودولية، والتي تصدر في مجموعها تأثيرات متباينة الدرجات على مسار عملها، وتضع مسار الحل السياسي للازمة السورية على حافة الانهيار مجددًا. ويمكن استعراض أبرز السيناريوهات المُحتملة لعمل اللجنة كما يلي:
أولاً: التوصل الى مشروع دستور توافقي، وهو يرتبط بقدرة الأطراف المشاركة على إيجاد أرضية حوار ونصوص متجاوزة للنقاط الخلافية، والوصول الى مشروع مكتمل يُمكن من خلاله البناء لأسس مرحلة سياسية جديدة تجنب الدولة السورية تجدد دورة الصراع. ويتوقف هذا السيناريو على مدى قدرة الأطراف السورية على تعزيز المسار السياسي بعيدًا عن مخاطر انهيار الحوار الجاري، كذلك رغبة الأطراف الدولية المنخرطة بأعمال اللجنة على إنجاز مشروع الدستور وإن جاء في صورة دستور مؤقت. وهو سيناريو مرجح؛ كون الرغبة السورية الجمعية تتجه نحو وأد الصراع، وتجنيب السوريين ويلات اللجوء والصراع المسلح.
ثانياً: التوافق على قطاع كبير من الدستور وتعليق بعض النصوص الخلافية، وهو ما يعني نجاح عمل اللجنة بشكل كبير في صياغة مسودة شبه مكتملة، مع وجود نسبة قليلة من المواد الغير متفق عليها. وهو ما يستلزم في تلك الحالة إيجاد تنازلات بين تلك الأطراف، ودعم أممي ودولي لتقريب وجهات النظر؛ لضمانة تمرير الإطار الدستوري ولو بشكل انتقالي، وتجاوز تهديدات انهيار الحوار السياسي والعودة لنقطة الصفر. وهو سيناريو أكثر ترجيحاً؛ كونه قريب من النموذج السوري الحالي ومحاولات التقارب بين المعارضة والحكومة، إلا أن تجاوز تلك النصوص غير المتفق عليها سيكون بشكل سريع؛ لرغبة المجتمع الدولي في فرض واقع سياسي جديد على مسرح الازمة، وعدم اتاحة الفرصة لتجدد النزاع.
ثالثاً: تعرقل اللجنة وفشل الوصول مسودة دستور، وهذا المسار أكثر اقتراناً بطبيعة المكونات التي ستكون ممثلة للمعارضة والمجتمع المدني، ومدى تحقق مصالح القوى التي تقف خلف بعض منها من الخارج، كذلك منظور ورؤية النظام السوري للعائد من المشروع المُقترح سواء بالإيجاب او السلب على استقرار الحكم في سوريا له. ويُمكن أن يتصدر هذا السيناريو إذ ما تراجعت رغبة المتحاورين في تجاوز الاختلافات المرحلية السائدة، أو إيعاز أطراف خارجية لأحد المكونات بتعطيل هذا المسار أكلاً في تحقيق مكاسب على الأرض سواء عسكرية أو اقتصادية تضمن لها يد طولى في سوريا. وهو سيناريو أقل ترجيحاً؛ لدراية الأطراف السورية والدولية بما يمثله من خطورة، وتهديدًا لمصالحها بالمنطقة.
ومُجمل القول، فإن انعقاد اللجنة الدستورية في ظل الحالة السورية المشتعلة يُعد مخرجًا بالغ الاهمية من خطر الصراع الدائر منذ2011، وأي كان السيناريو القادم، فإنه سيحدد مسار الازمة لفترة قادمة ليست بالقصيرة؛ إذ سيحسم اتجاهات دولية هامة تجاه قضايا شائكة كاللاجئين والإرهاب المتصاعدة خطورتهم. وبينما يظل الحوار داخل اللجنة -وفقاً للبيانات الأممية- سوريا/سوريا دون تدخلات خارجية، فإن الأطراف الدولية ستلعب دوراً مؤثرًا في صياغة المسار القادم للدولة السورية عبر مُخرجات تلك اللجنة عبر أدواتها المختلفة.