من وثائقهم … نكشف دور هيئة الإذاعة البريطانية (BBC) في الحروب السرية: الاستعداد لإنزال نورماندي (4)
البث للقوات المسلحة
بثت هيئة الإذاعة البريطانية للقوات المسلحة في فترة الحرب برامج عدة مثل: برنامج القوات، وبرنامج القوات العامة. وبعد يوم إنزال نورماندي، تم إذاعة برنامج ” القوات الاستطلاعية المتحالفة “. وشكلت كافة تلك البرامج تحديات أمام المذيعين. كما تكشف الوثائق من أن برنامج ” القوات الاستطلاعية المتحالفة ” على وجه الخصوص أثار اضطرابات بين هيئة الإذاعة البريطانية والقادة العسكريين الأمريكيين.
حقق “برنامج القوات” نجاحًا كبيرًا للبي بي سي بعد إطلاقه في يناير 1940مع المدنيين والخدمات المسلحة. حيث كانت فلسفته تعزيز الروح المعنوية للقوات البريطانية المتمركزة في فرنسا والداخل البريطاني. وتضمن كثيرا من المنوعات والأخبار الرياضية وبرامج المشورة والموسيقى.
كما كانت البي بي سي تعلم أن المدنيين قد يستمتعون أيضًا ببرنامج بديل عن “الخدمة الداخلية”. وبالتالي، لم يكن مفاجئا لهيئة الإذاعة البريطانية اكتشاف أنه بحلول عام 1942 كان غالبية البريطانيين يستمعون إلى برنامج القوات”.
لكن كان هناك أقلية تريد سماع المزيد من الأخبار، وعدد أقل من المحادثات وبرامج النقاش. كما وجد باحثو هيئة الإذاعة البريطانية تنامي شعور بالرضا ولكن أقل حماساً تجاه برنامج ” القوات الاستطلاعية المتحالفة”. أما في فبراير من عام 1944 فقد تغير كل شيء.
وليام هالي، المدير العام الجديد لهيئة الإذاعة البريطانية، قرر بعد زيارة له للقوات البريطانية في إيطاليا، أن ما تريده القوات هو وجود ترابط أكبر مع الوطن. وتم إلغاء “برنامج القوات” على إثره، واستبداله ببرنامج “الخدمة الخارجية” لهيئة الإذاعة البريطانية والموجه لكل من البريطانيين والقوات خارج البلاد، والذي تطور بسرعة إلى “برنامج القوات العامة”.
وكان رئيس تلك الخدمة الجديدة “نورمان كولينز”، والذي كانت لديه بالفعل تعاملات مكثفة مع القوات في مختلف مناطق القتال. في مقابلته لمجموعة BBC Oral History Collection، يعترف كولينز بوجود شكوك حول البرنامج منذ البداية، ويقول:
“تردد بين القوات الرغبة في معرفة ما يسمعه المواطنين البريطانيين في منازلهم للسماع لنفس الشيء. وكانت هناك طريقتان للتعامل. الأولى هي إذاعة برنامج “الخدمة الداخلية” للقوات المسلحة في الخارج، أو إذاعة ما يجري مع القوات للمواطنين في الداخل. حينها قرر وليام هالي إذاعة خدمة مشتركة بين البرنامجين. لكن المصاعب تمثلت فيما يجب أن يكون للبث هدفه وجمهوره، وأن جمهور المواطنين في الداخل يختلف عن القوات المسلحة في الخارج.”
تبين أديلايد بول في مذكراتها بتاريخ 2 أبريل 1944 في مدينة ساسكس الصعوبات التي واجهها نورمان كولينز، كتبت تقول:
“أنا لا أحب برنامج القوات الجديد ونادرا ما أستمع إليه. أفترض أن بعض الناس سعداء بكل هذه التحيات العسكرية، لكنها ليست مصلحة عامة. ولا أستطيع أن أرى شيئًا مثيرًا للاهتمام في هذا البرنامج.”
وبعد يوم إنزال نورماندي، كانت هناك فرص جديدة لبي بي سي لتزويد القوات المسلحة بخدمة إذاعية مصممة خصيصًا لهم. لكن كانت هناك أيضا تحديات جديدة. وتحسبا لافتتاح “الجبهة الثانية”، تم تأسيس القيادة العليا للقوات الاستطلاعية المتحالفة (SHAEF) في خريف عام 1943، مع تولي الجنرال آيزنهاور زمام القيادة.
حيث أراد “SHAEF” وجود خدمة بث جديدة تمامًا لتذاع لمئات الآلاف من القوات الأمريكية والبريطانية والكندية، والتجأت حينها إلى هيئة الإذاعة البريطانية للحصول على المساعدة الفنية والتحريرية.
سيسيل مادن، أحد هؤلاء الذين شاركوا في إعداد برنامج “القوات الاستطلاعية المتحالفة”، يقول:
” كان نجاحا مبهرا، كنت مسؤولا عن الإنتاج وتوفّر لدي كافة الموارد؛ بحيث لم يكن هناك شيء لا يمكنني إتمامه. كنت أُحضر جميع النجوم لبرامجنا الموسيقية الثلاثة، وهي “القوات الاستطلاعية” مع أفضل موسيقيّ أمريكا، و”الفرقة الكندية” للقوات الاستطلاعية المتحالفة، والفرقة البريطانية. وكان إذاعة البرامج متناسبة مع تقسيم قوات يوم إنزال نورماندي، والتي تألفت من 50٪ من الأمريكيين و 35٪ من البريطانيين و 15٪ من الكنديين، الأمر الذي شكل صعوبة للحفاظ على التوازن بينهما، لكننا نجحنا في إدارة الأمر”
وفي الواقع ، برزت الخلافات العميقة من وراء الكواليس حول الخدمة الجديدة. وذلك حول ما إذا كانت البي بي سي ملزمة باتباع توجيهات فرق الحرب النفسية الأمريكية المتمركزة في SHAEF”” أم لا ، أو من مسؤول هيئة الحرب السياسية البريطانية، فضلاً عن الجدل حول ما إذا كانت البرامج المعروضة “بريطانية” بالنسبة للقوات الأمريكية.
ويذكر روبن داف، مراسل حرب والذي كان ملحقاُ مع القوات الأمريكية لتغطية عملية إنزال نورماندي، الجنرال الأمريكي ، عمر برادلي، والصعوبات التي عرّضها لمراسلي بي بي سي في تغطية العملية خلال أشهر الصيف لعام 1944.
يوضح ريتشارد ديمبلبي في مذكرة سرية له تم نشرها حديثاً إلى مسؤول كبير في بي بي سي في لندن، من أن الجنرال برادلي قد اتهم هيئة الإذاعة البريطانية من خلال تقاريرها المفرطة في الحماس للأحداث في معركة Falaise Pocket:
“ضمّن الجنرال برادلي، في مؤتمر صحفي عام، أن هيئة الإذاعة البريطانية قد كلفت الجنود الأمريكيين أرواحهم من خلال إصدار إعلان سابق لأوانه يسد فجوة “فاليز” Falaise. من غير المعقول أن يدلي برادلي المتشدد بمثل هذا التصريح، سواء أكان مازحًا أو بدون تحري الدقة. وكان بيانه مقبولاً من قِبل المراسلين الأميركيين الحاضرين في المؤتمر، والذي أخبرني أحد المسؤولين منهم هذا الصباح أن ” برادلي لا يتحدث إلا عن حقائق”.
أن هذا النوع من الاتهامات، والذي يوصم البي بي سي في “تفكيرها الأمني” يحدث في كثير من الأحيان بشكل مقلق في هذا القطاع. وأرى أنه من الضروري اتخاذ إجراء قوي ومحدد، لإعطاء دليل واضح على أن البيانات تحظى دائمًا بدعم الأمن العسكري كما هو موضح في ختم الرقابة وأن البي بي سي لا تصدر هذا النوع من الأخبار المغلوطة.
إن موقف الجنرال برادلي الحالي يفضي إلى تقويض ثقة موظفيه وجيوشه في أخبار هيئة الإذاعة البريطانية، وهي المصدر الوحيد للأخبار لهم، ما يعني منطقياً أن مراسل بي بي سي في مجموعة مراسلي الجيش الأمريكي American Army Group لديه مهمة مستحيلة.”
وفي غضون أسبوعين، أكد كبير مراقبي الصحافة في القيادة العليا للقوات الاستطلاعية المتحالفة “SHAEF” أن “الخطأ كان بسبب الرقابة هنا و أن البي بي سي غير مخطئة في شيء”.
إلا أن هيئة الإذاعة البريطانية واصلت اعتراضها، وبأن الذي سيحدث الفارق هو التراجع العلني لادعاءات الجنرال برادلي، الأمر الذي لم يكن ليحدث، بل وتبعه المزيد من شكاوى الجيش الأمريكي بحق مجموعة مراسلي البي بي سي . ونتيجة لذلك، كان الجنود الأمريكيون يسخرون باستمرار عند سمعوا نشرات الأخبار على برنامج القوات الاستطلاعية المتحالفة.
وكان مالكولم فروست، الذي أنشأ سابقًا خدمة المراقبة في هيئة الإذاعة البريطانية، وعمل لدى MI5 وخطط لتوزيع مراسلي هيئة الإذاعة البريطانية في يوم إنزال نورماندي، وعمل عن كثب مع الجنرال أيزنهاور، وفر اتصالًا على أعلى مستوى بين القيادة العليا للقوات الاستطلاعية المتحالفة وهيئة الإذاعة البريطانية، الأمر الذي سمح له بتوضيح الكثير من حالات سوء الفهم والتقرب من الجنرال أيزنهاور شخصياً.
إنزال نورماندي
في السادس من يونيو من عام 1944، عرف العالم بحدوث إنزال نورماندي من هيئة الإذاعة البريطانية. حيث تابع المستمعون البث الخاص الذي سمح بمتابعة اللحظات الأولى من “الجبهة الثانية” التي طال انتظارها، والذي أظهر أن مقاربة البي بي سي برمتها في تغطية الحرب قد أحدثت ثورة. هنا ، تأخذنا الأرشيفات المنشورة حديثًا لما وراء كواليس أحداث اليوم، وتكشف عن شهور من الاستعدادات التي كانت تقوم بها بي بي سي سراً.
بث المذيع جون سناج يوم الثلاثاء السادس من يونيو عام 1944، في الساعة 9,32 أول إعلان رسمي عن إنزال نورماندي:
“هنا لندن. تذيع لندن هذا الخبر في الداخل والخارج والخدمات الأوروبية وعبر إذاعة البحر الأبيض المتوسط التابعة للأمم المتحدة. أصدرت القيادة العليا للقوات الاستطلاعية المتحالفة بيان رقم 1. “تحت قيادة الجنرال أيزنهاور، بدأت قوات الجوار المتحالفة، بدعم من القوات الجوية، بهبوط جيوش قوات الحلفاء صباح اليوم على الساحل الشمالي لفرنسا.”
في هذه المرحلة من الحرب، دخلت التغطية الإخبارية لهيئة الإذاعة البريطانية مرحلة جديدة كذلك. فمنذ عام 1942، اتفق كبار المحررين على أن قدرة البي بي سي على تقديم تقارير من ساحات المعركة كانت متراجعة كثيراً عن أداء الأميركيين أو الألمان.
لكن هناك بعض الأمثلة المذهلة للتقارير المنقولة عن المواقع، وذلك حين توفرت لدى هيئة الإذاعة البريطانية معدات تسجيل في المكان المناسب وتعاونت معها القوات المسلحة. ففي سبتمبر 1943، كان وينفورد فوجان توماس مراسل مع سلاح الجو الملكي البريطاني لتغطية إحدى الغارات على برلين، والتي أخذت حينها الكثير من الاستعداد والتفاوض، وعاد حينها بتقرير رائع ومليء بالأصوات “الفعلية” للطائرة وطاقمها، يتخللها تعليقه الخاص عن القنابل التي تم إسقاطها وعن القذائف المضادة للطائرات التي استهدفت الطائرة من مواقع العدو في الأسفل. فقد أرادت هيئة الإذاعة البريطانية بث المزيد من هذا النوع من التقارير الإخبارية المباشرة والمُحدثة، كأنها تنقل الميكروفون من داخل المعركة.
وفي حملة شمال إفريقيا ، كافحت هيئة الإذاعة البريطانية لتحقيق أي نتائج مماثلة. حيث كان أحد مراسليها هناك فرانك جيلارد، والذي تم إرساله إلى الصحراء بعد إجبار مراسل بي بي سي السابق، ريتشارد ديمبلبي، على العودة إلى بريطانيا. ويشرح جيلارد أن ديلمبي كان يقضي معظم وقته في القاهرة وليس على خط المواجهة، حين يقول:
“بدأ الجيش في امداد ريتشارد بمعلومات غير مؤكدة كليا، لنقل نصف حقيقية. ولم يكن هناك في ذلك الوقت شقاق كبير بين مكتب الحرب في لندن والقيادة العسكرية في الشرق الأوسط. وفي لندن، كان لابد من التفكير في كيفية توزيع الموارد المتاحة، ليس فقط بين جبهة الشرق الأوسط وجبهة شمال إفريقيا ولكن أيضًا بين الجبهات الأخرى. والآن أدركت قيادة الشرق الأوسط أن ريتشارد أثناء بثه الليلي كان يقود جمهورًا كبيرًا جدًا في بريطانيا، وبالتالي فإن معلوماته يمكن أن تؤثر على الرأي العام في بريطانيا لصالح جبهة الشرق الأوسط. اكتشف مكتب الحرب هذا في لندن، وبدأ يقول لبي بي سي بأن ريتشارد كان أداة القيادة في الشرق الأوسط، وأن هذا لا يمكن أن يستمر. في الوقت نفسه، وقع ريتشارد في الفخ، من أن تقاريره لم تكن ناتجة عن مشاهداته الحية للأحداث ولكن بلاغ عما نقله إليه آخرون والذي لم يكن دقيقًا برمته”
وسرعان ما فكرت هيئة الإذاعة البريطانية في كيفية التأكد من أن جميع تقاريرها تتبع نهج “شاهد العيان”. حيث أن التغطية من مواقع الجبهة يجب أن تكون “أشمل وأسرع وأكثر كثافة”. ومع فتح جبهة ثانية، بدأت البي بي سي في التخطيط لكيفية تحقيق ذلك حتى في أكبر العمليات العسكرية وأكثرها تعقيدًا.
أرسل مدير البث الخارجي في هيئة الإذاعة البريطانية خطاب تم الكشف عنه ضمن مجموعة وثائق البي بي سي بتاريخ 19 يناير عام 1943، وهو يوجه نداء عاطفيًا للحصول على مزيد من الموارد والمزيد من التعاون من الخدمات المسلحة ووقت أطول ضمن جداول بي بي سي لـلتقارير الأصلية عن خط المواجهة والتي سيتم بثها:
“عند اقتراح أي مخطط لتوسيع وتحسين التغطية الإذاعية الحالية للحرب داخل وقرب خط المواجهة، من الضروري أولاً تلخيص أوجه وأسباب القصور .
لا يمكن إنكار أن الهيئة قد فشلت حتى الآن في استغلال إمكانيات البث للحرب، أو أن أيا من مراسليها الحربيين قد أثبت نفسه في هذا الميدان. وفي كلا هذين المجالين، فإن المقارنة غير مواتية مع آليات بث الأعداء وحتى الحلفاء. وهناك ثلاثة أسباب رئيسية لهذا. 1- لم يعط الموضوع بشكل عام الأولوية المناسبة له داخل الهيئة، وعدم استخدام كافة إمكانات الراديو ، 2- فشلت الهيئة حتى الآن في الحصول من الخدمات على التعاون اللازم لضمان التغطية الكلية؛ 3- كما تم حصر المواد الأصلية الخاصة بخط المواجهة في النشرات الإخبارية، حيث تميل سرعة وتيرة الأحداث إلى الحد حتى من استخدام أفضل التسجيلات، والتي ستصبح في ذلك الموقف قديمة.
والهدف من هذا التدريب هو: 1- تمكين كل فرد من صقل عمله المتخصص وتطويع مقارباته لظروف القتال ، 2- تزويد كل عضو بمعرفة عملية عن عمل الآخر ، بحيث يمكن في حالة الطوارئ القصوى أن يستبدلوا أماكنهم. وفي أقرب وقت ممكن، يجب أن يأخذ المراسلون دورة تدريبية ثانية في شيء قريب من الظروف الميداني، على سبيل المثال خلال مناورات الجيش.”
كانت الخطوة التالية هي إنشاء “وحدة قيادة للراديو” مجهزة تجهيزًا كاملاً وتعمل بالتنسيق العسكريين. وتم اختبار المفهوم في مارس من عام 1943 عندما شارك مراسلو بي بي سي والمهندسون والكتاب في إحدى التدريبات الصورية للجيش البريطاني ، “عملية أسبارطة”. وكان ريتشارد ديمبلبي من بين المشاركين، وتم تكليفه من هيئة الإذاعة البريطانية بتقديم تقييماً لما حدث، والذي تم نشره حديثاً ضمن وثائق البي بي سي السرية.
حيث انتقد ديمبليبي في تقريره عدد من جوانب وجهود هيئة الإذاعة البريطانية في عملية أسبارطة. لكن استنتاجه العام كان أن وجود فريق في تلك المواقع هي فكرة قابلة للتطبيق. كما أعجب المسؤولون الحكوميون وكبار الشخصيات العسكرية بالتقارير الإخبارية التي قدمها ديمبلبي والآخرون. وتبع ذلك إنشاء “وحدة التقارير الحربية” الجديدة لهيئة الإذاعة البريطانية، والتي تولى مسئوليتها المذيع الشهير هوارد مارشال.
وكان ريتشارد ديمبلبي من بين من شاركوا، وطُلب من هيئة الإذاعة البريطانية أن تقدم تقييماً صريحاً لما حدث. وتقريره السري موجود أدناه ، ويمكن تنزيله بالكامل
https://downloads.bbc.co.uk/historyofthebbc/ww2/R28-280-2%20-%20Report%20on%20Spartan%20Extercise%20-%2015-03-1943.pdf
ومع ذلك، كان مالكولم فروست، الذي تردد في العمل بين بي بي سي و MI5 منذ إنشاء وحدة المراقبة في عام 1939، هو الرجل الذي عين النائب الجديد للوحدة. وعلى هذا النحو ، كان هو من حمل على عاتقه المسئولية في البداية، وخاصة عند التخطيط للتغطية يوم إنزال نورماندي، الأمر الذي تضمن مفاوضات سرية خلال الأشهر الأولى من عام 1944 مع فريق الجنرال أيزنهاور في القيادة العليا للقوات الاستطلاعية المتحالفة، ونقاشات مع المراسلين الأمريكيين الذين أرادوا اتباع نهج مختلف لتغطية عملية الإنزال.
ولم يكون من الممكن لمراسلي الحرب في هيئة الإذاعة البريطانية أن يحملوا معهم أجهزة لإرسال التقارير إلى لندن وخاصة في لحظات الإنزال الأولى. لكن البي بي سي عملت على تطوير أجهزة أرسال جديدة للتسجيلات في مواقع الحرب. وبمجرد اطلاع “مالكولم فروست” على الخطوط العامة لخطة الجنرال “أيزنهاور”، تمكنت هيئة الإذاعة البريطانية من وضع شبكة لأجهزة إرسال حول الساحل الجنوبي، ما سيسمح للمراسلين العائدين عبر القناة بإرسال تسجيلاتهم الميدانية بسرعة إلى لندن. وبحلول نهاية مايو عام 1944، كان كل ما تبقي إتمامه هو دمج مراسلي الحرب التابعين لهيئة الإذاعة البريطانية مع الوحدات العسكرية التي خُصصوا لها وفي مواقعهم المحددة يوم إنزال نورماندي. وفي يوم الأحد، الرابع من يونيو ، تم إجراء الاستعدادات النهائية في دار البث الإذاعي لإعلانها للعالم أن إنزال نورماندي قد بدأ.
كان مذيع بي بي سي جون سناج الآن في قلب الأحداث. وبما أن والسرية أمر حيوي، فقد تم التنسيق بشكل صارم مع المذيعين والعسكريين في تلك المرحلة؛ لضمان عدم تسريب أي معلومة أو حدوث أي خطأ تقني، لدرجة أن الكشف عن أي من خطط بي بي سي من شأنه الكشف عن خطة الغزو نفسها.
ماري لويس، عملت في منصب رفيع المستوى وموثوق به في بي بي سي، تشير في مقابلة لها مع مجموعة بي بي سي للتاريخ الشفهي، ما فعله كبير الموظفين في بي بي سي “بنجى نيكولز ” بخطة سناج السرية:
“سألني السيد نيكولس عما إذا كان هناك أي شخص يمكنه القيام بعمل، فقلت إننا الساعة العاشرة مساءً والموظفون قد غادروا، لكن إذا كان الأمر عاجلاً، يمكنني كتابته بنفسي. عرض علىّ وثيقة تحمل تعليمات تغطية إنزال نورماندي لمراسلينا وإذاعة البرامج. كان من الواضح تمامًا أنه كان أمر سريًا للغاية، وكان علىّ التأكد من أن لا أحد يراني”
ضمنت “فترة التنبيه” التي نسّقها سناج أن البيان الذي قرأه في الساعة 9.32 قد تم إرساله على جميع أجهزة إرسال بي بي سي في نفس الوقت. وبعد لحظات، بثت هيئة الإذاعة البريطانية مجموعة من الرسائل والإعلانات الأخرى: ترجمة البيان، رسائل إلى المستمعين في أوروبا المحتلة، إعلان رسمي من أيزنهاور نفسه، رسائل مسجلة من سياسيين، وإعلان بترقب حديث الملك جورج السادس إلى الأمة في الساعة 9 مساء ذلك اليوم.
في تلك الحين، وصل بالفعل معظم مراسلو الحرب التابعين لهيئة الإذاعة البريطانية إلى مناطق القتال. بينما نُقل آخرون بمن فيهم “ريتشارد ديمبلبي”، عبر القناة في طائرات مقاتلة أو قاذفات القنابل، وسبعة كانوا على متن سفن ومراكب الإنزال، وثلاثة آخرون بمن فيهم رئيس وحدة التقارير الحربية “هوارد مارشال”، كانوا إلحاقهم مع الفرق القتالية على الشواطئ. وتم بث أول تقرير شاهد عيان في الساعة الواحدة ظهراً.
وبحلول مساء اليوم الأول، بدأ تدفق المزيد من التقارير من مناطق مختلفة في ساحة المعركة؛ لبثها لجمهور في حالة يأس لمعرفة آخر المستجدات. حيث وفرت وحدة التقارير الحربية الآن التغطية “الأشمل والأسرع والأكثر كثافة” التي طالما سعت أليها هيئة الإذاعة البريطانية، وأن أكثر من 18 شهرًا من التخطيط التفصيلي قد آتت ثمارها.
الحلقة الأولى
الحلقة الثانية
الحلقة الثالثة