الحراك في العراق ولبنان.. ضجر من الطائفية قبل الأحوال المعيشية
حراك شعبي شهده كل من العراق ولبنان، كان دافعه الأبرز والأكثر ظهورًا هو الأزمات المعيشية وتفشي الفساد وسوء الخدمات، وغير ذلك من أسباب اقتصادية واجتماعية، ولكن في الوقت ذاته اتسم الحراكان بالشعبية والجماهيرية، بعيدًا عن دعوات الحركات السياسية والطائفية كما كان يحدث من قبل، وتجاوز المرجعيات الدينية والكتل السياسية، والخروج على التقسيمات الطائفية المهيمنة على النظام السياسي في كلا البلدين، بل والمطالبة بإسقاط هذا النظام القائم على المحاصصة الطائفية فقط، وأدى إلى انسداد الأفق السياسي، وأثبت فشله الذريع في إدارة الدولة وتحقيق الحد الأدنى من احتياجات المواطنين.
المظاهرات في بغداد وبيروت أثبتت أن الشعوب قد ضاقت ذرعًا بهذه الطائفية المتحكمة في كل مقاليد الأمور، وتعدت قمة هرم النظام السياسي، إلى التمدد والتغلغل في كل شيء داخل أروقة السلطة التنفيذية، وعبّرت الاحتجاجات عن رغبة المواطنين في إعادة بناء دولة القانون، وإعادة تشكيل هذه المعادلة السياسية السقيمة وتجاوزها.
الطائفية بديلًا عن المواطنة
كان تنوع الطوائف في العراق ولبنان دافعًا إلى اعتماد الطائفية مبدأ للحكم بدلًا عن مبدأ المواطنة الذي يمكن أن يضع في الاعتبار التوازن الطائفي في المشاركة في الحكم، ورغم أن دستوري البلدين لا ينص مطلقًا على هذا التقسيم الطائفي للحكم، فإنه بات مبدأ مستقرًا لا يمكن الحياد عنه، وفقًا لأعراف أخذت طابع الدستورية.
ففي العراق جرى ترسيخ نظام المحاصصة الطائفية منذ عام 2003، عندما تم تشكيل مجلس الحكم الانتقالي برئاسة بول بريمر، إذ كان المجلس مشكّلًا من 25 عضوًا من ممثلي الكيانات السياسية المختلفة، وراعى في تشكيلته الحجم السكاني لكل طائفة وقومية، اذ ضم 13 عضوًا من الشيعة و5 أعضاء من السنة العرب و5 أعضاء من القومية الكردية، وعضوين لكل من المسيحيين والتركمان.
ورغم أن الدستور العراقي لم يشر إلى هذه المحاصصة فإنها باتت عرفًا ملزمًا في تشكيل الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003، بالإضافة إلى العرف السائد أيضًا بأن يكون الرئيس العراقي من الأكراد، ورئيس الوزراء من الشيعة، ورئيس مجلس النواب من السنة،
أما في لبنان، فالوضع لا يختلف كثيرًا عن العراق، فالمحاصصة هي الحاكمة للنظام السياسي أيضًا، وفقًا لأعراف أخذت طابع الدستورية مستقرة منذ القدم، ومن أشكالها المستمرة حتى الآن أن يكون نصف عدد أعضاء مجلس النواب اللبناني من المسلمين والنصف الآخر من المسيحيين، ورغم محاولات اتفاق الطائف المُوقّع عام 1989 لتعديل هذه المحاصصة، وتعديل الدستور اللبناني بعده، فإنها مازالت مستمرة، بجانب العرف السائد بأن يكون رئيس الجمهورية اللبنانية من المسيحيين الموارنة، ورئيس الوزراء من السنة، ورئيس مجلس النواب من الشيعة.
حالة جديدة تستدعي التغيير
تفرض هذه الحالة الجديدة من الحراك والرفض الشعبيين في العراق ولبنان واقعًا شعبيًا جديدًا لا يمكن إغفاله أو تجاهله عمدًا أو دون قصد، مما يتطلب تغييرًا سياسيًا حقيقيًا في كلا البلدين، يتجاوز مبادئ المحاصصة أيًا كان نوعها، ويعلي مبادئ المواطنة والمدنية بشكل عابر للطوائف الدينية والسياسية، فالشعبان أدركا أنه من العبث المراهنة على إمكانية إجراء أي إصلاح أو تحقيق أي تقدم في أي مجال طالما بقي هذا النظام الطائفي قائمًا.
فالبنية الطائفية للنظام السياسي في بغداد وبيروت جعلت من شبه المستحيل اتخاذ أي قرارات كبرى دون توافق الفرقاء السياسيين الموزعين على أساس طائفي، ولعل ما شهدته لبنان طوال عامين من فشل القوى السياسية على تسمية رئيس جديد لعدم الوصول إلى توافق، أبرز مثال على ذلك.
وقد أدرك رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري هذه الحالة الجديدة فقال إن المظاهرات التي تشهدها لبنان، بداية حقيقية لإنهاء النظام الطائفي في لبنان، إلا أن دعوات إسقاط النظام الطائفي في لبنان لم تبدأ مع الاحتجاجات الراهنة، بل عبّر عنها الشعب اللبناني بوضوح في مظاهرات قام بها عام 2011 تزامنًا مع موجات الربيع العربي، مطالبًا بإسقاط النظام الطائفي.
الميلشيات تدفع نحو البقاء
لكل نظام مستفيدون ومنتفعون يحاولون إبقاء الأمور على ما هي عليه؛ استمرارًا لمصالحهم، وترسيخًا لهيمنتهم على السلطة السياسية والدولة برمّتها، ولذلك كان هؤلاء المستفيدون هم الأكثر ضراوة في معارضة هذه الحالة الجديدة التي تولّدت في الاحتجاجات العراقية واللبنانية، بل وتعدّوا معارضتها إلى مواجهتها بشتى السبل.
وبينما اتهم رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي من أسماهم “المندسين” في الوقوف وراء حالات القتل التي حدثت في الاحتجاجات الأخيرة، أشارت تقارير إلى مسؤولية فصائل مدعومة من إيران عن ذلك، إذ نشرت قناصة على أسطح البنايات واشتركت في فض المظاهرات بالقوة، وتشير أصابع الاتهام هنا إلى عناصر الحشد الشعبي التي تتلقى الأوامر من قادتها بدلاً من القائد العام للقوات المسلحة.
وفي لبنان كان الأمر أكثر وضوحًا من العراق، إذ فوجئ المتظاهرون بمواكب ترفع أعلام “حزب الله تحاول تفريقهم، وجابت مئات الدراجات النارية التي ترفع أعلام “حزب الله” و”حركة أمل” بيروت بموازاة المظاهرات، ولكن قوات الجيش اللبناني فرّقت هذه المواكب، واتضحت حالة الرفض الشعبي لحزب الله وهيمنته على الدولة اللبنانية في هتافاتهم “كلن يعني كلن ونصر الله واحد منن”.