التيارات السلفية في مصر…الجذور والنشأة
خلال الثلاث عقود الماضية، اتسعت الرقعة التي يشغلها السلفيون من خريطة التيارات الإسلامية؛ فأصبحت السلفية بمثابة مظلة تضم العديد من التيارات الدينية التي تجمعها اختلافات فكرية وفقهية؛ لذا تنوعت الأفكار والرؤى إلى أن وصلت بالحالة السلفية إلى الحد الذي يصعب معه العمل بشكل تنظيمي هرمي ينخرطون فيه ويُسيّرون شئون دعوتهم؛ فليس في أدبيات السلفيين كلمة “تنظيم” على الإطلاق، بل يستعيضون عنها بمصطلح “العمل الجماعي”، ولكنه يجمعهم أصول الفكر السلفي، والسعي لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الدولة الإسلامية أي العودة للخلافة الإسلامية.
ومن أهم ملامح تعقد الخريطة السلفية في مصر وجود نوعين من اتجاهين سلفيين، هما:
أولًا: السلفية التقليدية “السلفية العلمية”، مثل المدارس السلفية وشيوخها في الإسكندرية والقاهرة والمنصورة، إضافة إلى الدعاة المستقلين، مثل “محمد حسان”، و”محمد حسين يعقوب”، و”محمود المصري”، وهي تضم ثلاثة أشكال من السلفية، هي:
- الدعوة السلفية: نشأت في سبعينيات القرن الماضي، على يد مجموعة من الطلاب؛ إذ تشبه اتحاد الدعاة الذي بدأ يتجلى بشكل منظم عام 1980، ومن أبرزهم (محمد إسماعيل المقدم، وأحمد فريد، وسعيد عبد العظيم، ومحمد عبد الفتاح، وياسر برهامي، وأحمد حطيبة) وقد التقوا جميعًا في كلية الطب بجامعة الإسكندرية.
انتمى هؤلاء الطلاب إلى تيار ما كان يسمى”الجماعة الإسلامية”، والذي عُرف بالجامعات المصرية في السبعينيات بـ “الفترة الذهبية للعمل الطلابي” في مصر، إلا أنهم انسحبوا من الجماعة الإسلامية بعدما هيمن عليها طلاب الإخوان؛ فرفضوا منهجهم، وتأثروا بدعوة “محمد إسماعيل المقدم” من خلال الدروس التي كان يلقيها عليهم بجانب دروس “أحمد فريد” زميله؛ فكانت تلك الدروس بمثابة ملتقى أسبوعي لهم لمناقشة متن ” العقيدة الطحاوية”، وكذلك “تحفة الأطفال”، و“مدارج السالكين”، بحسب ما ذُكر في مذكرات “أحمد فريد”. وبهذا العدد القليل استطاع “محمد إسماعيل المقدم” تأسيس النواة الأولى من المدرسة السلفية عام 1977.
إذ أطلقوا على أنفسهم بعد ذلك اسم “المدرسة السلفية”، إلا أنهم اشتهروا بمسمى “سليفو الإسكندرية”. ومع مرور عدة سنوات من العمل الحركي، انتشرت السلفية العلمية بجميع محافظات الجمهورية وكثرت أتباعها؛ فأطلقوا على منظمتهم “الدعوة السلفية”. ومنذ منتصف الثمانينات، أسست الدعوة السلفية معهد “الفرقان لإعداد الدعاة “في الإسكندرية عام 1986، (كأول مدرسة إسلامية ذات توجه سلفي لتخريج الدعاة)، وصدّرت دعاتها إلى جميع محافظات مصر.
ويدعوا هؤلاء السلفيون إلى العودة لكتاب الله والسنة بفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين، ويهتمون بكتب التراث، ومقولات الأئمة من أصحاب المذاهب والفقهاء، وأدبيات وأفكار “ابن تيمية وابن القيم” وشيوخ جمعية “أنصار السنة المحمدية” وغيرهم. ويدعوا منهجهم إلى تبني استراتيجية لتغيير المجتمع من خلال مرحلتين ينهض أولها على التربية والتعليم القائم على أسس سلفية (نهج التابعيين). وتسمى ثانيها مرحلة التمكين الشامل دون انتخاب أو انقلاب.
ويعلق اتباع المدرسة السلفية على انفصالهم عن الحكام الذين لا يحكمون بما أنزل الله، ويعلنون أن هؤلاء الحكام على باطل، وينذرون الحكام وأعوانهم بالرجوع عن باطلهم، وإلا جاهدوا ضدهم.
- السلفية الحركية: نشأ -في ذات الوقت الذي نشأت فيه الدعوة السلفية في الإسكندرية-، تيار أطلق عليه فيما بعد “السلفية الحركية” بحي شبرا بالقاهرة على يد مجموعة من الشباب. ومن أبرز رموزه “فوزي السعيد”، و”محمد عبد المقصود”، والدكتور “سيد العربي”، و”فوزي السعيد”، و”نشأت إبراهيم”.
ويكاد يتطابق منهج السلفية الحركية مع منهج الدعوة السلفية “مدرسة الإسكندرية”، إلا أن السلفيين الحركيين لا يكتفون بتكفير الحاكم حكمًا فقط، ولكن يذهبون إلى تكفيره عينيًا. إذا لم يحكم بما أنزل الله، ويجهرون بذلك في خطابهم الدعوي، كما يعتقدون بحرمة المشاركة في المجالس النيابية؛ لأنها تتحاكم إلى غير شرع الله، وتجعل الدساتير الوضعية حاكمًا لشريعة الله وهذا في منهجهم بمثابة كفر. وكذلك يعتقدون أن مظاهر المجتمعات الإسلامية الآن من تبرج وسفور ومعاصي كلها من أمور الجاهلية، لكن لا يُكّفرون بها، ودائمًا ما يشنون هجومًا عنيفًا على التيارات السلفية التي يرون أنها تهون من مفهوم المعصية، ويحصرون مفهوم الكفر في دائرة تكذيب الدين أو الجحود، ويصفونهم بـ “مرجئة العصر”.
- السلفيون المستقلون: يُعتبر هذا التيار امتدادًا للتيار السلفي القديم في مصر. ومنذ مطلع القرن العشرين، مثله عديد من الجمعيات مثل جمعية الهداية التي تدعوا إلى الالتزام بالسنة ومحاربة البدع، كما اهتم اتباعها بالهدى الظاهر في المسائل المتعلقة بشكل الملابس، واللحية، وشعر الرأس، والحجاب. لا يهتم هذا التيار بالسياسة؛ فلا يؤمن بالعمل الجماعي التنظيمي، ولا يجمع أعضائه إلا شيخ يتلقون تعاليمهم منه. ولا يناقش بعض الرموز آراءهم السياسية المتعلقة بتصورات الواقع ومشكلاته، إلا في جلسات سرية.
ويتمثل منهج هذا التيار في التغيير القاعدي؛ لذا يفسر أتباعه قول الله تعالى: “إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ”، بأن واقع الأمة الإسلامية لن يتغير إلا إذا غّير كل فرد من نفسه، وأصلح من حاله وفقًا لمعايير الإسلام، كما لا يمانعون من المشاركة في التصويت في الانتخابات النيابية وغيرها من أنواع الانتخابات لدعم محاولات الإصلاح. وهم في ذلك يتفقون مع أنصار السنة وجماعة الإخوان المسلمين. فقد استغل هذا التيار الفضاء الإلكتروني والإعلامي في نشر فكره المنصب على محاربة البدع. ومن أهم رموزه، “أسامة عبد العظيم” (أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر)، والشيخ “محمد مصطفى الدبيسي” (نائب الأول).
ثانيًا “سلفية المنهج والاعتقاد” يُمثلها عدد من التيارات الاسلامية، حيث لها طريقة عملها الخاص وأسلوبها الدعوى المستقل الذي يرفض العمل والتنظيم. ومن أهمها:
- جماعة أنصار السنة المحمدية: وقد تأسست في مدينة القاهرة على يد الشيخ “محمد حامد الفقي”، بعدما حدثت مضايقات متبادلة بينه وبين الطرق الصوفية؛ لذا اتجه إلى العمل الجماعي المنظم من خلال إنشاء جمعية تحمل منهج “أنصار السنة المحمدية” وتنشر مبادئها، ووضع لها قانونًا؛ حيث بلغ عدد أتباعها الآلاف. وتعاقب على جماعة أنصار السنة المحمدية عدد من الرؤساء بعد وفاة الشيخ “محمد حامد الفقي” حتى عام 1969، وفي ذات العام، أدمجت الحكومة المصرية جماعة “أنصار السنة” في “الجمعية الشرعية”، واستمرت الجماعة على هذا الحال حتى جاء عام 1972، فأعيد إشهار الجماعة مرة أخرى على يد الشيخ رشاد الشافعي (المؤسس الثاني)، مستفيدة من أجواء حالة الانفتاح التي سمح بها الرئيس الراحل السادات. وينتشر أعضاء الجماعة في كل محافظات مصر، ولها في مصر قرابة مائة فرع وألف مسجد.
تبنى منهج جماعة أنصار السنة المحمدية على دعوة الناس إلى أن الإسلام دين ودولة، وعبادة وحكم، وصالح لكل زمان ومكان، ومن ثم يجب الدعوة إلى إقامة المجتمع المسلم، والحكم بما أنزل الله. كما ترى الجماعة أن إقامة الدولة الإسلامية (التمكين) لا يتحقق إلا بنشر التوحيد الخالص؛ فهو شرط لتحقيق وعد الله بالنصر وعودة الخلافة، وترفض بشدة العمل المسلح ضد الحكومات، وتعتبره خروجًا لا ينتج عنه إلا اتساع دائرة الفتن.
وكذلك تعتقد الجماعة أن النظام الديمقراطي نظام كافر باعتباره يعطي الإنسان حق التشريع الذي هو حق خالص لله. فالإسلام نظام يتسم بالذاتية؛ فليس له علاقة بالنظم الغربية الحديثة، لكن الجماعة ترى أن الانتخابات بالترشيح وبالتصويت وسائل جائزة في حد ذاتها؛ لأن مزاحمة أهل الديمقراطية لتقليل شرهم في الانتخابات العامة وغيرها أمر جائز، مع مراعاة الضوابط الشرعية إذا رُجّحت المصالح على المفاسد.
من أهم رموز الجماعة الشيخ “محمد حامد الفقي”، و”عبد الرزاق عفيفي” عبد “الرحمن الوكيل”، و”رشاد الشافعي”، و”محمد علي عبد الرحيم”، و”صفوت نور الدين”. وجدير بالذكر أن الجماعة شهدت مؤخرًا صراعًا داخليًا نشب بين تياراتها على إثر صدور كتاب “الحاكمية والسياسة الشرعية عند علماء أنصار السنة” للشيخ “عادل السيد” اتهم فيه السلفية السياسية ودعاة المدرسة الإسكندرية وحتى السلفية الجهادية باختراق المنهج العقائدي لأنصار السنة، مستغلين الظروف السياسية، والمحلية، والدولية التي تمر به البلاد، لتشويه سمعة السلفية الحقيقية من خلال خلط السياسي بالعقائدي بين المنتمين لجماعة أنصار السنة.
- الجمعية الشرعية: أسسها الشيخ “محمود خطاب السبكي” عام 1912 تحت اسم “الجمعية الشرعية لتعاون العاملين بالكتاب والسنة المحمدية”. وانتشرت فروعها التي بلغ عددها 350 فرعًا في جميع المحافظات المصرية؛ لما تقدمه من خدمات اجتماعية؛ حيث أظهرت الجمعية أن الهدف من وراءها هو الوعظ والإرشاد، والدعوة إلى الالتزام بالسنة ومحاربة البدع. وكذلك إرساء قيمة التعاون والتكافل بين أبناء الشعب؛ حيث نشـأت الجمعية لتحقيق رؤية مؤسسها بما يتوافق مع الواقع المصري المضطرب في ظل الاستعمار الذي نتج عنه تنحية الشريعة الإسلامية عن الحياة العامة، وتغيير مسار التعليم ومناهجه، وبداية حملة التغريب التي ظهرت في تلك الفترة، وما صاحبها من دعوات تقلل من قيمة المرأة، ومكانة الشريعة الإسلامية في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وظهور وتفشي البدع والخرافات.
يستند دعاة الجمعية الشرعية لكتاب “الدين الخالص” للشيخ “محمود خطاب السبكي”، والذي يعد بمثابة مرجع أساسي لهم باعتباره موسوعة فقهية ضخمة تذكر معظم الآراء الفقهية بأدلتها ثم ترجح أحدها. كما عملت الجماعة بمبدأ “الانشغال بالسياسة وعدم الاشتغال بها”؛ لذا تبنت العمل الجماعي المنظم البعيد عن السياسة، فحال ذلك دون مناهضة الحكومة لأنشطتها، إلا أن الجمعية انحرفت عن فلسفة العزوف عن السياسة؛ فأصدرت مجلة “الاعتصام” ذات التوجه المعارض؛ مما دفع رئيس مصر الراحل أنور السادات إلى وضعها في زمرة الصحف والمجلات التي صادرها ضمن القرارات التي أصدرها ضد جميع قوى المعارضة المصرية في 5 سبتمبر 1981. وفي السنوات الأخيرة، أصدرت الجمعية مجلة باسم “التبيان” فيما تبين أن الجمعية انحرفت عن قاعدة “محمود خطاب السبكي” بـ “عدم الاشتغال بالسياسة” ما يعكس اختراق جماعة الإخوان المسلمين للجمعية.
وتهدف الجمعية وفقا لمنهجها الذي تسوقه، إلى خروج الأمة الإسلامية من مشكلة التأخر الذي يرجع إلى البدع والخرافات التي دخلت على الدين، وتنقية الدين من هذه البدع كي تعود للأمة على مجدها وعزها. من أبرز رموز الجمعية الشيخ “محمود محمد خطاب السبكي”، والشيخ “أمين محمود محمد خطاب السبكي”، والشيخ “عبد اللطيف مشتهري”، والشيخ الدكتور “فؤاد علي مخيمر”.