الاقتصاد أولاً.. دوافع الاحتجاجات الشعبية في لبنان
الموجة الثالثة من الاحتجاجات في لبنان، بعد 2011 و2015، ماضية في هز أركان النظام اللبناني. حيث تصاعدت الاحتجاجات في وسط العاصمة اللبنانية بيروت، لتصل مناطق أخرى، شمالاً وجنوباً، وتوافد المئات إلى ساحة رياض الصلح وسط بيروت، احتجاجاً على الأوضاع المعيشية، والتنديد بسياسات التقشف وفرض الضرائب والمطالبة باستقالة الحكومة.
شكل القرار، الذي سرعان ما سحبته الحكومة، شرارة لتحركات وتظاهرات واسعة تضم ممثلين عن أبرز الأحزاب السياسية، والعاجزة منذ أشهر عن الالتزام بتعهداتها في تخفيض عجز الموازنة وتحقيق إصلاحات بنيوية. وأصبح هناك أزمة ثقة بن الشعب والحكومة وأصبحت المطالب الآن لا تتمثل في التراجع عن فرض الضرائب بل وصلت إلى حد المطالبة برحيل الحكومة وتشكيل حكومة جديدة لديها نهج جديد تقوم بتنفيذ الإصلاحات اللازمة وليس فقط القيام بشعارات رنانة.
وقد وافق مجلس الوزراء على فرض حزمة جديدة من الرسوم بينها ضريبة على المكالمات التي تُجرى عبر واتساب وتطبيقات أخرى مماثلة، بهدف زيادة الإيرادات في مشروع ميزانية البلاد لعام 2020. ويعاني لبنان، أحد أكبر الدول مديونية في العالم، أزمة اقتصادية ومالية. وتسعى الحكومة اللبنانية، التي أعلنت حالة الطوارئ الاقتصادية، إلى البحث بشكل عاجل عن سبل تقليل العجز بين المدفوعات والإيرادات. وتقول حكومة الحريري إنها تعمل على إجراء “إصلاحات اقتصادية” قبل العام المقبل سعيا للحصول على قروض ومعونات تعهدت بها عدة جهات دولية اشترطت أن تقوم بيروت بإصلاحات ضرورية في مجال مكافحة الفساد قبل مواصلة ضخ المعونات.
كما يعاني لبنان، الذي شهد حربا بين عامي 1975 و1990، من أحد أعلى معدلات الدين العام في العالم بالنسبة لحجم الاقتصاد. وتضرر النمو الاقتصادي بسبب النزاعات وعدم الاستقرار في المنطقة. ويقدر الدين العام بأكثر من 86 مليار دولار، أي أكثر من 150% من إجمالي الناتج المحلي، وهي ثالث أعلى نسبة في العالم.
وتعهد لبنان العام الماضي بإجراء إصلاحات هيكلية وخفض العجز في الموازنة العامة، مقابل حصوله على معونات وقروض بقيمة 11,6 مليار دولار أقرها مؤتمر “سيدر” الدولي الذي عقد في باريس. ومع تأخر الحكومة في الإيفاء بتعهداتها، أصدرت الوكالات العالمية للتصنيف الائتماني مراجعات سلبية لديون لبنان السيادية. وأقر البرلمان في يوليو ميزانية تقشفية للعام 2019 سعياً للحد من العجز العام. بينما تناقش الحكومة حالياً مشروع موازنة العام 2020، وتسعى إلى توفير إيرادات جديدة لخزينة الدولة.
تمدد الاحتجاجات
هذه الموجة من المظاهرات ليست الأولى في لبنان في الفترة الأخيرة. بل الثانية خلال شهر تقريبا، ضد سياسات الحكومة. إذ شهد البلد موجة من الغضب بسبب تراجع قيمة الليرة اللبنانية ونقص الدولار. وترتب على ذلك أزمات في قطاع الوقود والمخابز وغيرها من الخدمات الأساسية مما دفع اللبنانيين إلى التظاهر. وتسبب نقص الدولار الأمريكي بشكل كبير في الأسواق والبنوك في تعرض بعض القطاعات الاقتصادية والإنتاجية إلى انتكاسة، إذ يعتمد لبنان بشكل رئيسي على الاستيراد لتلبية معظم الاحتياجات الأساسية للمواطنين كالقمح والوقود. ولإيفاء مستلزماتها تعتمد تلك المؤسسات على الدولار لتسديد فواتير مورديهم. وكالعادة لم تمر الأزمة مرور الكرام عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي لجأ إليها اللبنانيون للتعبير عن سخطهم من الأحوال السيئة التي آلت إليها الأمور في لبنان.
ووقعت اشتباكات بين شرطة مكافحة الشغب وبعض المتظاهرين قرب مقر الحكومة في العاصمة بيروت حيث ألقى المتظاهرون عبوات حارقة على رجال الأمن. كما تداول مستخدمو مواقع التواصل الاجتماعي اللبنانيين صورا وفيديوهات توثق المظاهرات والمواجهات بين المتظاهرين وقوات الأمن. واستخدموا عددا من الوسوم أبرزها #لبنان_ينتفض و #اجا_وقت_نحاسب و #كلن_يعني_كلن.
دوافع متعددة
رفعت الاحتجاجات الأخيرة في لبنان مطالب اقتصادية واجتماعية، إلا أن ذلك لم ينف وجود مطالب سياسية تتمثل في التصدي للجمود الذي أصاب الساحة السياسية اللبنانية، كما طالب المحتجون بالتصدي للفساد السياسي. وفي هذا الإطار تمثلت أهم دوافع الاحتجاجات فيما يلي:
- ضعف الأداء الحكومي: لم يلب الأداء الحكومي طموحات واحتياجات المواطن اللبناني على مختلف المستويات الاقتصادية والسياسية وغيرها، كما أخفقت الحكومة في تنفيذ وعودها المتعلقة بالإصلاح الحكومي ومحاربة الفساد على الرغم من تبنيها شعاري “الإصلاح” و”محاربة الفساد”، إلا أنه لم يتحقق أي إنجاز يذكر على صعيد هذين الملفين. كما انصبت الاحتجاجات على انتقاد إدارة الحكومة، التي يرأسها سعد الحريري، لملف الاقتصاد وأسلوب سعيها لزيادة الدخل القومي في ميزانية عام 2020.
- ارتفاع الضرائب: بدأت التحركات الشعبية بعد إقرار الحكومة فرض “20 سنتاً” على تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، بينها تطبيق واتساب، على أن يبدأ العمل بالقرار بدءاً من شهر يناير 2020. وجاء هذا القرار رغم أن تكلفة الاتصالات في لبنان تُعد من الأعلى في المنطقة. وأملت الحكومة من خلال هذه الرسوم أن تؤمن مبلغاً يقدر بنحو 200 مليون دولار سنوياً لخزينة الدولة، في خطوة قالت منظمات متخصصة بالأمن الإلكتروني إنها “غير قانونية” كونها تتعلق بخدمات مجانية أساساً. وعلى وقع المظاهرات الاحتجاجية، أعلن وزير الاتصالات التراجع عن فرض هذا الرسم بناء على طلب الحريري. كما أقرت الحكومة رفع الرسوم على التبغ المستورد والمنتج محلياً، بينما لا تزال تدرس اقتراحات أخرى بينها فرض ضرائب جديدة على المحروقات، وزيادة ضريبة القيمة المضافة تدريجياً.
- ارتفاع نسب البطالة: لعل من أهم أسباب قيام الاحتجاجات هو تزايد ظاهرة البطالة، وعدم توفر الوظائف وفرص العمل لآلاف الخريجين وحملة الشهادات الأولية والعليا مما زاد من نقمة هؤلاء الشباب والعاطلين عن العمل على الحكومة. وقد حذر البنك الدولي من ارتفاع معدلات البطالة في لبنان، والتي وصلت وفق بعض الدراسات إلى نحو 40% بخاصة في صفوف الشباب.
- فساد حكومي: أثارت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية جدلا واسعا في لبنان بعد نشرها وثائق من محكمة في جنوب أفريقيا تشير إلى تقديم رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري أكثر من 16 مليون دولار لعارضة أزياء من جنوب إفريقيا بعد أن التقيا في منتجع فاخر في سيشيل عام 2013. ولم يكن الحريري في منصبه الحالي عندما بدأ في إرسال الأموال إلى كانديس فان دير مروي، إذ كان رئيسا لحزب المستقبل. ولكن الخبر لم يمر مرور الكرام على مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي في لبنان، وتباينت آراؤهم بين من اعتبر الأمر “فضيحة” ومن رآها “حرية شخصية” ومن وصف الأمر بـ “المؤامرة”.
- حرائق لبنان: شهد لبنان الأسبوع الماضي، حرائق غير مسبوقة تجاوز عددها المائة حريق، طالت العديد من المناطق. وانتقد رواد وسائل التواصل الاجتماعي ما قالوا إنه تأخر قوات الدفاع المدني في التعامل مع الحرائق. وسخر بعضهم من عدم استغلال ثلاث طائرات إطفاء بحجة أنها “لم تخضع للصيانة”، ووجهت سهام النقد للأجهزة الأمنية والدفاع المدني في هذا الشأن.
استجابة مزدوجة
اتجهت الحكومة اللبنانية لاتخاذ إجراءات سريعة لكبح المظاهرات ومنع امتدادها إلى باقي المدن، لاسيما وأن الأوضاع الأمنية والسياسية غير مستقرة، وذلك على مستويين أمني وسياسي. فعلى المستوى الأمني، أطلقت قوات الأمن اللبنانية الغاز المسيل للدموع وطاردت محتجين في العاصمة بيروت واعتقلت شرطة مكافحة الشغب محتجين. وأطلقت الشرطة قنابل الغاز المسيل للدموع والطلقات المطاطية لتفريق المتظاهرين في المنطقة التجارية ببيروت. وأصيب واعتقل العشرات. وصرح جهاز الأمن الداخلي اللبناني إن 52 شرطيا أصيبوا وإن قواته اعتقلت 70 شخصا.
أما على المستوى السياسي، وجه رئيس الحكومة سعد الحريري كلمة للبنانيين، أمهل فيها من سماهم الشركاء في حكومته 72 ساعة ليقدموا حلا يقنع الشارع والشركاء الدوليين، لإخراج لبنان من أزمته الاقتصادية والمالية. وعلى وقع المظاهرات التي تطالب حكومته بالاستقالة، اتهم الحريري أطرافا في الحكومة لم يسمها بتعطيل مساعيه للمضي في الإصلاحات، كما عاب على القوى السياسية في لبنان بالانشغال بالمناكفات السياسية وتصفية الحسابات الداخلية والخارجية.
دعم سياسي
صدرت العديد من المواقف وردود الأفعال من قبل القوى والأحزاب السياسية والمرجعيات الدينية إزاء الاحتجاجات في لبنان، وزير المالية علي حسن خليل، وإن لم يعبر عن دعم صريح للمتظاهرين، إلا أنه قال إن وزارته “ترفض تحميل الطبقات الوسطى والفقيرة أي إجراءات ضريبية” ودعا الحكومة، التي هو جزء منها، إلى الإنصات إلى المتظاهرين.
كذلك عبر عدد من السياسيين عن دعمهم للمظاهرات. ومنهم رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط، الذي أكد على ضرورة استقبال كافة التعليقات والملاحظات الخاصة بالمتظاهرين بصدر رحب ودراستها جيدا قائلاً: “تظاهرات اليوم قلبت الطاولة على الجميع”، مضيفاً “اتصلت بالرئيس الحريري وقلت له إننا في مأزق كبير وأفضل أن نستقيل سوياً”. أما رئيس الوزراء اللبناني السابق، نجيب ميقاتي، دعا المتظاهرين إلى “التزام السلمية” لتبليغ رسالتهم التي وصفها بالنبيلة. كما دعا رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع أنصاره للمشاركة في المظاهرات.
كما أكد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله اللبناني، أن الأوضاع الاقتصادية التي دفعت بخروج هذه المظاهرات ليست وليدة الساعة ولا وليدة السنوات الثلاث الماضية بل تراكمات على مدى عقود. ولم يؤيد نصر الله استقالة الحكومة الحالية، بل أيد استمرارها ولكن بروح جديدة ومنهجية جديدة، والمشكلة ليست المشكلة في الحكومة بل في المنهجية.