
تضحية “ترامب” بأكراد الشمال السوري.. دوافع ودلالات
قرار ترامب بسحب القوات الأمريكية شمال سوريا بالتنسيق مع أنقرة والسماح لها بالتوسع في عملياتها شمال سوريا والهجوم على القوات الكردية كان أمرا مستغربا، ليس فقط من المجتمع الدولي لكن كذلك للداخل الأمريكي، فالقرار أثار حفيظة أعضاء الكونجرس من الطرفين الدمقراطي والجمهوري كما مسؤولي البنتاجون الذين تم إخفاء القرار عنهم وفقاً لتقرير نشرته صحيفة “واشنطن بوست” .
الأكراد الذين تحالفوا مع واشنطن وحاربوا داعش تحت غطاءها الجوي وجدوا أنفسهم وحيدين في مرمى نيران الجيش التركي المقاد بالأطماع الأردوغانية شمال سوريا، برغم تقديمهم لما يقرب من 10.000 قتيل خلال حربهم مع داعش، والتي حينما قضى عليها، سارع ترامب لإعلان انتصار ” واشنطن” على داعش .
ورغم كل ما قدموه خلال سنوات الحرب، تخلى عنهم الرئيس الأمريكي ترامب في خطوة لاقت إنتقاد واسع دون فهم لمبرراتها والمتغيرات التي أدت لها، فكيف يمكن أن تقدم واشنطن على خطوة تتخلى فيها عن حليفها وتقدمه على طبق من ذهب لأردوغان وما المقابل لذلك؟
الهجوم التركي على الأراضي السورية ليس الأول من نوعه فقد سبقه عمليتي “غصن الزيتون” و ” درع الفرات”، كذلك بتنسيق مسبق مع الجانب الأمريكي، لكن سحب القوات الأمريكية والتخلي تماماً عن الحليف الكردي كان تحول كبير للسياسة الخارجية الأمريكية، لا يبرره سوى فردية ترامب في اتخاذ القرار، وبالأخص بعد خروج عدد من التصريحات من مسؤولي الإدارة الأمريكية والبنتاغون برفضهم للقرار.، الرئيس ترامب وبسؤاله عن ما إذا كان القرار سيؤثر على قدرة الولايات المتحدة مستقبلاً في صنع تحالفات على الأرض، أنكر ذلك وتحدث مبرراً قراره بأن الولايات المتحدة تدفع لوحدها تكاليف باهظة لدعم الأكراد، كما أنها تتحمل وحدها تكلفة الحرب على تنظيم داعش، وأسهب متحدثاً عن تخلف بعض الدول الأوروبية كفرنسا وألمانيا عن دفع حصتها في تكاليف التحالف الدولي للقضاء على داعش، وذكر خلال المؤتمر الصحفي ” أنهم مدينون لنا بملاين وملاين من الدولارات “، وأضاف ترامب متحدثاً عن نفس النقطة أن تركيا حليف استراتيجي واقتصادي أساس للولايات المتحدة، كما تطرق إلى نقطة لم تكن ضمن صميم الموضوع، وهي أصعب ما يقوم به الرئيس الأمريكي وهو وفقاً لترامب “التوقيع على خطابات الرثاء المرسلة لأهالي الجنود الأمريكيين الذين قتلوا في العمليات خارج البلاد وقال أنه يقوم بالاتصال بهم مباشرتاً في بعض الأحيان”.
ومن خلال حديثه في المؤتمر الصحفي يمكن أن نستشف مبررات ترامب للقرار والتي عبر عنها بين السطور خلال حديثه .
العامل الاقتصادي
مستشار الرئيس التركي أردوغان كان قد صرح مع بدأ الهجوم التركي على شمال سوريا ل“سي أن أن”، أن الرئيس الأمريكي ترامب ونظيره أردوغان، توصلا سوياً لفحوى العملية القائمة، كما أن القوات الأمريكية على علم مسبق بأماكن الضربات الجوية والمدفعية التركية، وهذا وفقاً لتصريحات القائم بأعمال وزير الدفاع “مارك إسبر”، مما يشر لتنسيق كامل بين الطرفين قبل خطوة الانسحاب الأمريكي والهجوم التركي.
وخلال حديثه في المؤتمر الصحفي الخميس، ذكر ترامب أن تركيا حليف اقتصادي مهم وهو الأمر الذي يبدي دائماً له الرئيس الأمريكي “ذو العقلية التجارية “، أولوية دائماً على حساب أمور أخرى، ولا يخفى على أحد اللقاء الذي جمع وزير الخزانة الأمريكية “ستيف منشن والرئيس التركي أردوغان” والذي عقب عليه منشين بأنه كان لقاء ممتاز، وأشار لموافقة أردوغان على مقترح ترامب والذي يقضي بزيادة حجم التجارة بين البلدين ليصل لـ 100 مليار دولار .
كذلك تراجعت الدول الأوروبية عن الإيفاء بالتزاماتها المالية في محاربة الإرهاب كجزء من نفقات التحالف الدولي، وتكفلت الولايات المتحدة بمعظم التكلفة، وهو أمر لا يحبذه ترامب ، وقيامه بسحب قواته من شمال سوريا ليس فقط يخفف من النفقات بل كذلك يلقن القادة الأوروبين درساً فيما معناه أن عليهم الإيفاء بمستحقاتهم المادية للولايات المتحدة إن رغبوا في وضع رأيهم في الإعتبار مستقبلاً.
معارضة داخلية
وعلى المستوى الداخلي، وضح تصميم ترامب على القرار برغم معارضة الكثيرين له، ووفقاً لـ”واشنطن بوست”، فإن القرار تم إخفائه عن بعض مسؤولي البنتاجون، وهو ما يعني تصميم ترامب على المضي قدماً في قرار الانسحاب بغض النظر عن أي معارضة للقرار كما حدث سابقاً عندما استقال وزير الدفاع السابق “جيمس ماتيس”، بعد مكالمة هاتفية بين الرئيس ترامب ونظيره أردوغان، أسفر عنها قرار سابق لسحب القوات الأمريكية في ديسمبر الماضي، قبل أن تتراجع عنه واشنطن وتقرر تخفيض عدد القوات من 2500 لـ 1000 مقاتل فقط.
سعي ترامب لسرعة تنفيذ القرار، له مبرراته، فمع بدء أولى معارك الانتخابات الرئاسية الأمريكية مبكراً بإجراءات العزل التي يتخذها الكونجرس ضد الرئيس الأمريكي بسبب مكالمته مع الرئيس الأكراني فلاديمير زلنسكي، يزعم معارضو ترامب أنه حاول الضغط على نظيره الأوكراني لفتح تحقيق حول نشاطات منافسه القادم في الانتخابات “جو بايدن”، كان عليه توجيه الأنظار لأمر أخر غير أزمة عزله والتي كانت حديث الشارع منذ إعلان رئيسة الكونجرس “نانسي بيلوسي” عن بدء إجراءات العزل، ليس هذا فحسب فترامب المعروف بخطابه الشعبوي، تحدث خلال المؤتمر الصحفي، عن أن أصعب ما يقوم به كرئيس هو التوقيع على خطابات الرثاء لأهالي العسكرين الأمريكيين الذين قضوا نحبهم خلال العمليات خارج البلاد، الأمر الذي يبرر له سحب القوات من منطقة الشرق الأوسط، إيفاءا منه بوعوده الانتخابية قبل البدء في حملته الرئاسية الجديدة .
لكن الرئيس الأمريكي ترامب يعي جيداً حجم المعارضة التي يلقاها قراره بسحب القوات وفتح الطريق أمام الجيش التركي لسحق الأكراد في شمال سوريا، ليس فقط من الداخل بل ومن الخارج كذلك، لذلك قام بقطع عدة وعود ليطمئن منتقدي القرار، فغرد على تويتر قائلاً ” إذا ما قامت تركيا بأي تصرفات لا أرها صحيحة سأقوم بتدمير اقتصادهم كما قمت بذلك من قبل”، كما أن وزير الخزانة الأمريكي “ستيف مينشين”، أعلن أن ترامب أشار لاستخدام العقوبات الاقتصادية على أنقرة إذا ما استدعى الأمر، وخرجت تركيا عن الإطار المحدد “، ربما كان الهدف من تلك التصريحات والتهديدات هو امتصاص الغضب الدولي والداخلي الناجم عن قرار الانسحاب الأمريكي، وما يثبت ذلك هو قيام تركيا بالفعل بتخطي الخطوط الحمراء المحدد لها منذ اليوم الأول، فقد سقطت قذائف تركية بالقرب من قاعدة أمريكية بـ”كوباني” شمال سوريا، كما هرب بعض من سجناء داعش، بعد إنفجار سيارة داخل أحد السجون، فيما يبدوا كعملية هروب منظمة، برغم اتفاق واشنطن وأنقرة على مسؤولية الطرف الأخير عن سجناء داعش، كل ذلك دون أي رد فعل من الجانب الأمريكي وهو ما يدلل على أهمية قرار الانسحاب للرئيس الأمريكي.
ختاماً
أخيراً يمكن تلخيص مبررات ترامب بالانسحاب من شمال سوريا، بأن ترامب يرى أن نزيف الدولارات في دعم الأكراد لا فائدة ترجى منه، فقد ذكر في تصريحات له يوم الجمعة ” أنه ليس رئيس العالم بل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية “، وما يؤيد هذا الطرح قيامه بنفس الخطوة خلال أزمة ناقلات النفط بالخليج العربي عندما أشار إلى أنه على الدول تحمل تكلفة الحماية الأمريكية لها أو تقوم هي بحماية نفسها، يتضح هنا أن الرئيس ترامب يولي الشق الاقتصادي أولوية عن استمرار الاستثمار في النفوذ الأمريكي خارجياً وهو نفس الطرح الذي يحققه من خلال الانسحاب من شمال سوريا .
ليس ذلك فحسب، فترامب كذلك يرى أن القوات الأمريكية في سوريا لا تـأثير يذكر لها على الأرض مقارنتاً بحجم ما ينفق عليها، فهو يستطيع استخدام الفصائل المسلحة على الأرض أو التنسيق مع الأطراف المسيطرة على المشهد السوري، عوضاً عن صرف ملايين الدولارات على عمليات وعتاد القوات الأمريكية بسوريا .الأهم من ذلك، أن ترامب يسعى لاستغلال الانسحاب داخلياً للوفاء بوعوده الانتخابية قبل البداية الفعلية للسباق الرئاسي، والذي بدأت معاركه مبكراً، فبرغم معارضة عدد لابأس به من الجمهوريين مثل “السيناتور لينزي جراهام”، المعروف بتأييده قرارات الرئيس ترامب، وهو يرى في القرار “قصر نظر”، كما يراه مضراً بالمصالح الجيوسياسية الأمريكية مستقبلاً، لكن ترامب لم يصغى وصم أذانه عن أي انتقاد للقرار، وهو ما بدا أنه يريد استخدامه في معركته الانتخابابية 2020، وبرز ذلك خلال تصريحاته الجمعة أثناء مشاركته في مؤتمر جماهيري لدعم مرشحين جمهوريين في انتخابات الكونجرس، عندما صرح بأن ” الذهاب للشرق الأوسط كان الخطأ الأكبر في تاريخ البلاد” وأضاف ” بعد عقود من صرف الأموال على بناء وحماية الدول الخارجية نحن نبني بلادنا اليوم “، فهل بالفعل ستساهم تضحية ترامب بالأكراد ووفائه بوعده بسحب القوات بعكس سلفه باراك أوباما في إعادة انتخابه مرة أخرى.