كيف تعاملت “واشنطن” مع لجوء “عبد الناصر” للسوفييت في بناء “السد العالي”
عندما أصدر مجلس قيادة الثورة قرارًا، عام 1952، يتم بموجبه عمل دراسات متعلقة باحتمالات انشاء سد ضخم عند مدينة أسوان بغرض حجز مياه فيضان نهر النيل وتخزينها لدواعي توليد الكهرباء، لم تكن القيادة المصرية وقتها تدري أن هذا المشروع التنموي الضخم، لن يعود فقط على مصر بالخير، وإنما أيضًا سوف يلعب دورًا هامًا باعتباره طرف من أطراف النزاع بين قوى عالمية كُبرى وقتها.
وبمجرد أن استقر رأي مجموعة العمل على الدراسات الانشائية للسد على أن هذا المشروع قادر على توفير احتياجات مصر المائية، وانتهت شركتان هندسيتان من ألمانيا من تقديم تصميم للمشروع عام 1954. عكفت لجنة دولية على مراجعة هذا التصميم ثم أقرته في ديسمبر، مما ترتب عليه أن طلبت مصر، بناءً على ذلك، من البنك الدولي القيام بتمويل المشروع.
وبعد دراسات مستفيضة أصدر البنك الدولي تقريرًا، نشره في يونيو 1955، أكد فيه سلامة المشروع وأعتمد لأجل تمويله مبلغ 8 ملايين دولار مصر، بغرض تنفيذ بعض الأعمال التحضيرية للمشروع، من ضمنها انشاء خطوط سكك حديدية، ومساكن للعاملين في الموقع. وتم التوصل الى اتفاق ينص على أن يتولى كلاً من “البنك الدولي، الولايات المتحدة الأمريكية، بريطانيا”، تمويل المشروع بتكلفة 1.3 مليار دولار.
مساعدة مشروطة، تنطلي على خدعة!
ترغب الولايات المتحدة الأمريكية عادةً في المساعدة، إلا أن تلك المساعدة تبقى دائمًا أمرًا مشروط، يحدث في إطار ضوابط ومحددات ونظم بعينها. تقوم تلك النظم بفرض نفسها كعنصر من عناصر التدخل والتحكم في مستقبل الشعوب الأخرى، التي تُعلن الولايات المتحدة للعالم أنها تقوم بمساعدتها. ولقد طبقت الولايات المتحدة، نموذجها الخاص من المساعدة على ما حدث فيما يتعلق بعملية تمويل انشاء السد العالي. حيث أعلنت في البداية أنها سوف تقوم بتمويل السد ولكن من خلال عدة خطوات، تقتضي بأن تقوم الولايات المتحدة بتمويل بناء السد جنبًا إلى جنب مع إنجلترا. وللوهلة الأولى بدت الشروط التمويلية، عادية ومقبولة في عيون الكثيرون، إلا أن العرض “الأنجلو أمريكي”، لتمويل السد لم يكن يحمل في باطنه، الكثير من التفاؤل كما في ظاهره. إذ أن الدولتان فرضتا الكثير من القيود على تنفيذ المشروع، بدأت بإلزام مصر بتخصيص ثلث دخلها القومي لمدة 10 سنوات لأجل بناء السد العالي، ثم تلي ذلك مطالباتهم مصر بفرض الكثير من الرقابة على المشروعات الاقتصادية الأخرى، وتبع ذلك فرض ضوابط أخرى للحد من زيادة التضخم والإنفاق الحكومي.
ولم تتوقف الأمور عند هذا الحد، إذ اشترطت الدولتان فرض رقابة على المصروفات الحكومية المصرية، وعلى جميع الاتفاقيات الأجنبية أو الديون الخارجية، وألا تقبل مصر قروضًا أخرى أو تعقد اتفاقيات في هذا الشأن إلا بعد موافقة البنك الدولي، وكان آخر اشتراطاتهم، هو الاحتفاظ بحق إعادة النظر في سياسة التمويل تجاه المشروع المصري في حالات الضرورة. وجميعها تُعد شروط مجحفة للغاية، كان من شأنها أن تخضع مصر لما يشبه بعملية سلب قرارها المستقل واخضاعها لحقبة جديدة من الاحتلال الاقتصادي الأجنبي. ولهذا السبب أثارت هذه الشروط غضب عبد الناصر والشعب المصري بأسره، إذ أنها أعادت إلى الأذهان أسلوب الرقابة، الذي كانت الولايات المتحدة وبريطانيا قد فرضتاه على مصر، إبان عهد الخديوي إسماعيل، عند انشاء قناة السويس. وكانت البلاد في ذلك الوقت تسعى لأن تخطو نحو المستقبل والازدهار، لا أن تسير إلى الوراء.
الانسحاب الأمريكي المُخزي!
وبعد الخوض في عملية تفاوضات، وافق عبد الناصر على الصفقة، على أن يحتفظ البنك الدولي لنفسه بحقوق “معقولة”، فيما يتعلق بتفقد الإجراءات التي سوف تتخذها مصر لأجل الحد من التضخم، وترتب على هذه الموافقة، الاتفاق الذي تم إعلانه في 8 فبراير 1956، حيث يقدم البنك الدولي بموجبه قرضًا قيمته 200 مليون دولار، ويتوقف تنفيذ هذا الاتفاق على احتمالية التوصل الى اتفاق آخر مع لندن وواشنطن حول ما أعلناه من شروط لأجل الموافقة على تمويل بناء السد.
وآلت الأمور في النهاية إلى خروج وزارة الخارجية الأمريكية، في يوليو 1956، لإلقاء بيان تُعلن من خلاله سحب العرض الأمريكي لتمويل مشروع السد العالي، بحجة أن اقتصاد مصر لن يستطيع تحمل هذا المشروع الضخم. كما تحججت الولايات المتحدة الأمريكية في رفضها لتمويل المشروع، بما صدر على لسان الرئيس الأمريكي آنذاك، جون فوستر دالاس، موجها حديثه الى السفير المصري بالولايات المتحدة، أحمد حسين، إذ أنه قال إن الولايات المتحدة تعتقد أن من يبني السد العالي سوف يكسب حتمًا كراهية الشعب المصري، لأن الأعباء المترتبة عليه سوف تكون مدمرة وساحقة، وأنه ليس في وسع الشعب المصري أن يتحمل عبء تنفيذ هذا المشروع الضخم.
وكان الرئيس الأمريكي –آنذاك- يملك شكوك ودوافع أخرى صوب عبد الناصر، الذي كان ينظر اليه باعتباره يشكل خطرًا على النفوذ الأمريكي في المنطقة، كما رأى أنه من الأفضل للولايات المتحدة أن تحارب تحركات عبد الناصر المتواصلة ضد الاستعمار الغربي والامبريالية، ولهذا السبب ظهرت خطوة الانسحاب الأمريكي من عملية تمويل بناء السد، ظنًا منه أن مثل هذه الخطوة سوف يترتب عليها بعد ذلك تراجع في عملية بناء السد بأسرها، إلا أنه لم يكن يدري أن انسحاب الولايات المتحدة الامريكية من تمويل الصفقة ترتب عليه وقوع أضرار بالغة في مسار العلاقات بين مصر وأمريكا، ومدى انتشار النفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط، استمر لسنوات طوالٍ فيما بعد.
ما ترتب على الانسحاب
عندما يصبح العالم بين قوتين متصارعتين، يكون أمر متوقع للغاية أن تحول مصر وجهتها نحو الكفة الأخرى، بمجرد أن تُقرر الولايات المتحدة الأمريكية أن تُدير ظهرها عن تمويل السد المصري. إذ أنه كان من الطبيعي لمصر بعد الانتهاء من اتخاذ خطوة تأميم قناة السويس، أن تولي وجهها صوب قوى أخرى صديقة، على استعداد أن تمد لها يد المساعدة. وبتاريخ 27 ديسمبر عام 1958، وقعت مصر اتفاقية القرض السوفيتي لتمويل المرحلة الأولى من انشاء السد العالي، والتي شملت البدء في انشائه والارتفاع ببنائه الى الدرجة، التي تكفل تحويل مياهه إلى مجرى جديد، يتم إنشاؤه لهذا الغرض مع زيادة التخزين المتاح سنويًا.
وقضت الاتفاقية بأن يُقدم الاتحاد السوفيتي –سابقًا- قرضًا قيمته 400 مليون روبل، أي نحو 100 مليون دولار، إلى مصر. وتقوم مصر بتسديد القرض على 12 قسطًا سنويًا اعتبارًا من عام 1964، وقد بلغ سعر الفائدة على ذلك القرض 2.5% سنويًا. وفي 27 أغسطس 196، تم عقد اتفاقية مشاركة الاتحاد السوفيتي في تمويل المرحلة الثانية لإتمام مشروع السد العالي، وقدمت حكومة الاتحاد السوفيتي بمقتضى تلك الاتفاقية 900 مليون روبل، أي نحو 215 مليون دولار بأسعار ذلك الوقت. على أن يتم سداد القرض بنفس شروط القرض الأول، ويبدأ السداد بعد عام من تاريخ اتمام جميع هذه الأعمال بحيث لا يتأخر ذلك عن أول يناير 1972. وسعر فائدة القرض 2.5% تسري من تاريخ استخدام كل جزء من القرض على أن تؤدى خلال الأشهر الثلاثة الأولى من العام التالي للعام الذي استحقت فيه.
هل تغفر واشنطن لمصر الالتفات نحو السوفييت؟!
في دراسة أجراها الدكتور أيمن شبانة، أستاذ العلوم السياسية بمعهد الدراسات والبحوث الأفريقية، بجامعة القاهرة. تحت عنوان “مفاوضات تسوية أزمة سد النهضة.. المخاطر المحتملة ومسارات التحرك المصري”، أوضح أن خطة بناء السدود الاثيوبية هي في الأصل خطة أمريكية، ظهرت منذ الستينيات ردًا على لجوء مصر الى الاتحاد السوفيتي لأجل الحصول على تمويل لبناء السد العالي. وأشار إلى أن مكتب استصلاح الأراضي الأمريكي قد قدم لإثيوبيا في عام 1964، دراسة جدوى حدد لأثيوبيا فيها 33 موقع تصلح لإنشاء مشروعات مائية مختلفة، لا تقتصر فقط على السدود، بل تمتد لتشمل خزانات ومشروعات مائية أخرى متعددة، جاء سد النهضة من ضمنها. وأضاف أن السد كان يُطلق عليه في البداية اسم “سد الحدود”، ثم تطور بعد ذلك في عام 2011 وأصبح يٌسمى “إكس دام”، ثم أطلق عليه اسم “سد الألفية”، حتى استقر الأمر على “سد النهضة” في النهاية.
كما أوضح الدكتور شبانة في دراسته، أن الولايات المتحدة الأمريكية حرصت منذ الستينيات على مساندة إثيوبيا كقوة إقليمية، بما يتيح لها الضغط المستمر على مصر باستخدام ورقة المياه، بما يضمن اتساق السياسة المصرية إزاء قضية الشرق الأوسط، خاصة الصراع العربي الإسرائيلي، مع المصالح والتوجهات الامريكية.