هل بمقدور ألمانيا حلحلة الأزمة الليبية؟
بعد مرور ثمانية أعوام على الإطاحة بالعقيد معمر القذافي، في 2011، لا تزال ليبيا تشهد مرحلة انتقال فوضوي مدعومة بانقسام سياسي تحول إلى صراع عسكري على السلطة، بين حكومات متنافسة تبحث عن الشرعية، تدعمها المصالح الدولية، وتعززها تحالفات من الجماعات المسلحة التي تلعب دوراً تخريبيا، وتقوم مقام الدولة في حفظ الأمن. في ظل هذا الوضع، تحولت ليبيا إلى تهديد دولي وإقليمي حقيقي بسبب النشاط العابر للحدود وتدفق السلاح منها وإلى دول الجوار.
وتسعى القوى الإقليمية والدولية للتوصل إلى تسوية سياسية من خلال طرح مبادرات وعقد مؤتمرات لوضع نهاية للصراع الدائر. لكن سياسة المؤتمرات التي أتبعها المجتمع الدولي منذ بدأ الأزمة، لم تأت بجديد، ولم تخرج ليبيا من دوامة العنف التي تعيشها. وفي محاولة لتجنب أخطاء مؤتمري باليرمو وباريس، دخلت برلين على خط الأزمة لتعلن أنها سوف تعقد مؤتمر حول ليبيا بالتعاون مع الأمم المتحدة في نوفمبر المقبل. وقالت المستشارة الألمانية “أنجيلا ميركل” في كلمة أمام البرلمان الألماني “هناك وضع يتطور في ليبيا وقد يتخذ أبعادا مثل التي شهدناها في سوريا.. ومن الضروري أن نبذل كل ما بوسعنا لضمان عدم تصعيد الوضع إلى حرب بالوكالة وستقوم ألمانيا بدورها، إذا لم تستقر الأوضاع في ليبيا فإن استقرار المنطقة الأفريقية بأسرها سيتزعزع”.
ويعد دخول برلين على خط الأزمة الليبية بالجديد، خاصة أنها امتنعت عن التدخل في الأزمة منذ بدايتها عام 2011، حتى إنها قد رفضت التصويت على قرار مجلس الأمن آنذاك الداعي للقيام بعمل عسكري لحماية المدنيين في ليبيا. ولم تتعود ألمانيا منذ فترة على لعب دور مباشر في الوساطات الدولية. ولكن نظرا للموقع الجغرافي لليبيا في شمال إفريقيا ونظرا لمخاطر الهجرة غير الشرعية كل هذا دفع ألمانيا للاهتمام بليبيا. كما ترى ألمانيا أن غياب سلطة الدولة المركزية قد أدى إلى ظروف فوضوية، حيث يتغذى النزاع أيضًا على حقيقة أن العديد من الدول لا تلتزم بحظر الأسلحة الذي تفرضه الأمم المتحدة.
ومن المتوقع إقصاء قطر وتركيا من مؤتمر برلين المزمع عقده، الأمر الذي أثار مخاوف رئيس حكومة الوفاق فايز السراج بالنظر إلى الدور الذي تلعبه الدوحة وأنقرة في دعم حكومته والميليشيات التابعة لها. وطالب السراج، بدعوة جميع الدول المعنية بالملف الليبي. وذكر بيان صادر عن المكتب الإعلامي لحكومة الوفاق أن السراج طالب بـ“ضرورة دعوة كل الدول المعنية بالشأن الليبي دون أي إقصاء في مؤتمر برلين الدولي حول ليبيا”.
أسباب دخول ألمانيا على خط الأزمة
على عكس فرنسا وإيطاليا، لم تنحاز ألمانيا منذ بدء الأزمة، لأي طرف من أطراف الصراع، فهي ليست مع الشرق حيث منطقة المشير خليفة حفتر، ولا مع الغرب حيث حكومة الوفاق المعترف بها دوليا. لذا فهي مقبولة لدى الفرقاء الليبيين في حال قيامها بالوساطة. ودخول ألمانيا على خط الأزمة مرده أن حكومة برلين على يقين بأن استمرار تدهور الأوضاع في ليبيا يمثل قنبلة موقوتة لها في ملف الهجرة غير النظامية والذي يؤرقها كثيرا، وترى أن أي خطوات أمنية تتخذها في الداخل لن تنهي تماما أزمة الهجرة، طالما هناك مناطق تعم فيها الفوضى ويتسرب منها مهاجرون إلى أوروبا. وبالتالي فإن ألمانيا وكذلك الدول الأوروبية الأخرى لهم مصلحة في تهدئة ليبيا، لتجنب المزيد من تدفق اللاجئين.
على جانب آخر، جاء الدور الألماني على خلفية انشغال الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” في التوسط في السلام مع الولايات المتحدة الأمريكية وإيران، وانسحاب أمريكا من الاتفاق النووي الإيراني. وكذلك انشغال إيطاليا بأوضاعها السياسية الداخلية في ظل انهيار الائتلاف الحاكم وإعادة تشكيل حكومة جديدة بقيادة “جوزيبي كونتي”. فضلاً عن انهماك بريطانيا في مفاوضات الخروج المتعثر من الاتحاد الأوروبي. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت “أنجيلا ميركل” لانتقاد شديد أثناء جولتها بشمال أفريقيا في مايو الماضي، بسبب “غضب وسخرية” رؤساء تشاد والنيجر ومالي، وغيرهم، من أنه على الرغم من أن “الغرب” قد تمكن بالفعل من إسقاط ليبيا، فإنه لم يتمكن من إعادة الاستقرار في البلاد مرة أخرى.
المصالح الفرنسية والإيطالية في ليبيا
تنافس قوي، ومحاولة لبسط النفوذ بين روما وباريس حول ليبيا الغنية بالنفط، فمنذ أن قادت فرنسا العملية العسكرية “فجر أوديسا” عام 2011 للإطاحة بالعقيد معمر القذافي، دخلت ليبيا في حالة من عدم الاستقرار تفاقمت إلى حرب أهلية عام 2014 قسمت البلاد بموجبها إلى حكومتين متنافستين. وفشلت باريس وروما كلاً على حدة من التوصل لحل سياسي للأزمة. ومع فشل مؤتمري باريس وباليرمو اللذين كرسا التناقضات بين روما وباريس حينها والصراع بينهما حول الريادة في الملف الليبي، يبدو البلدان في ظل الوساطة الألمانية، متناغمين إما استفادة من دورهما السلبيين في التعاطي مع الأزمة في ليبيا سابقا، أو لتقاطع مصالح قد يكون جوهرها ملف الهجرة غير النظامية.
ويأتي الدافع الفرنسي والإيطالي للتدخل في الأزمة الليبية من الناحية الأمنية والاقتصادية، ففي الشق الأمني ترى البلدان أن الأمن وليس الهجرة هو مشكلة ليبيا الأكثر إلحاحا التي حولت البلاد إلى وجهة للتهريب وأنشطة المسلحين، وأصبحت ليبيا بوابة المقاتلين والانتحاريين من تنظيمي القاعدة وداعش إلى أوروبا. واقتصادياً، تسعى إيطاليا للاستفادة من النفط الليبي، حيث تُعتبر شركة إيني الإيطالية أكبر منتج أجنبي للنفط في ليبيا، كما تسعى فرنسا لحماية مصالحها المتعلقة بالاستثمار في اليورانيوم في النيجر، ولذلك فإن فرنسا مهتمة بالجنوب الليبي أكثر من أي فاعل دولي آخر.
وعلى الرغم من ألمانيا وسيطًا مقبولًا بدرجة كبيرة من أطراف الصراع وكذلك من أغلب القوى الدولية والإقليمية، بيد أن الرغبة الألمانية تواجه بعقبات متعددة قد تحد من فاعليتها. حيث تخشى فرنسا وكذلك إيطاليا من الدور الألماني بشكل كبير، خاصة في ظل تخوفات من أن تشكل مخرجات المؤتمر المزمع عقده أي تداعيات سلبية على مصالحهما في ليبيا.
وتسعى باريس إلى محاولة استغلال تشكيل حكومة جديدة في إيطاليا من أجل التوافق حول حلول وسط كفيلة بالحفاظ على الحد الأدنى من مصالحهما في ليبيا، وهو ما يتضح من تصريحات وزير الخارجية الفرنسي “جان إيف لودريان” في 15 سبتمبر الجاري، بأن الحكومة الإيطالية الجديدة تبدو أكثر انفتاحًا وأكثر تصميمًا على إقامة علاقة إيجابية مع فرنسا، وقد تجلى ذلك بشكل أوضح في زيارة الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” إلى روما في 18 سبتمبر الجاري بهدف تعزيز التنسيق بين البلدين في الملف الليبي في ظل رغبة مشتركة للبلدين متعلقة برفض هيمنة ألمانيا على الملف الليبي.
آفاق الوساطة الألمانية
في ظل فشل المجتمع الدولي في احتواء الأزمة، يصعب التكهن بالآفاق السياسي للوساطة الألمانية، التي قد تخرج ليبيا من عنق الزجاجة. بيد أنه من الصعب التعويل على المؤتمر المزمع عقده بداية الشهر المقبل في تسوية الأزمة الليبية، خاصة في ظل انتشار عدد كبير من الميليشيات المسلحة في طرابلس، وهي ميليشيات لا تعترف بأي حل سياسي انطلاقاً من الدعم المالي والعسكري الكبير المقدم لها من بعض الدول.
وعلى الرغم من أن المبادرة تمثل فرصة كبيرة للوصول إلى حل للوضع المتأزم في ليبيا في حال الوصول إلى اتفاق بين الأطراف الدولية والإقليمية، إلا أن شرط نجاح أي مبادرة سياسية هو وجود حد أدنى من الثقة بين الأطراف المتنازعة، وقدرتهما على تنفيذ الاتفاق، ومن ثم كيف يتوقع أن ينجح اتفاق بين طرفين لا يمتلكان أدنى درجات الثقة المتبادلة، والقدرة على تنفيذ ما قد يتفقان عليه.
كما يواصل الجيش الوطني الليبي عملية تحرير العاصمة الليبية “طرابلس” والتي بدأها في الرابع من أبريل الماضي ضد الميليشيات التي تسيطر على “طرابلس” بغطاء من حكومة فائز السراج ودعم “قطري – تركي”. لذا فإن معركة تحرير طرابلس هي معركة محورية بالنسبة للجيش الوطني، وقد يكون من الصعب القبول بأي تفاوض قبل إنهائها، ولا سيما مع تزايد المخاوف من استغلال أنقرة لأي هدنة من أجل رفع مستوى تسليح الميليشيات بشكل أكبر، وهو ما يدفع نحو استمرار الصراع الليبي بنفس معطياته الحالية في المرحلة المقبلة.