سد النهضة الإثيوبي .. مواجهة جادة
بعد مُضي أربع سنوات على توقيع إعلان المبادئ الخاص “بسد النهضة” بين مصر وإثيوبيا والسودان، خرج علينا المتحدث الرسمي باسم وزارة الشؤون الخارجية الإثيوبية، نبيات غيتاتشو، بتصريح مضمونه “أن المفاوضات لن تؤثر في عملية مواصلة بناء السد، وأنه يسير وفقًا للجدول الزمني وسوف يكتمل حسب الجدول الزمني الذي وُضع له، مشيرا إلى أن إثيوبيا دولة ذات سيادة، وأنها سوف تستمر في استخدام مواردها المائية ولن يوقفها أحد في خطتها التنموية”، كما أعلنت الخارجية المصرية مطلع سبتمبر المنصرم أن المفاوضات مع الجانب الإثيوبي لم تسفر عن الوصول إلى حلٍ مُرضٍ، الأمر الذي دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي للحديث عن أزمة السد أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها الرابعة والسبعين.
يُذكر أن مصر تقدمت بمقترح يتضمن ألا تقل كمية المياه المتدفقة من إثيوبيا عن 40 مليار متر مكعب سنوياً خلال سنوات ملىء خزان السد، ولا يقل منسوب المياه خلف السد العالي عن 135 متراً للتخفيف من أعباء نقص المياه المترتبة عن بناء سد النهضة، لكن الجانب الإثيوبي رفض المقترح دون نقاش أو إبداء أسباب، ومع وصول المفاوضات لطريق مسدود، صرّح المدير التنفيذي للمكتب الإقليمي التقني لشرق النيل، “فيكأحمد ناجاش، “أن مصر تتعامل كأنها تمتلك السد وأن ذلك غير منطقي”، ما يعني أن إثيوبيا ليس لديها نية للحفاظ على المصالح المائية لمصر.
ولم تقف الحكومة المصرية مكتوفة الأيدي في انتظار أن تسفر المفاوضات عن نتائج إيجابية تخدم المصلحة المصرية ولا تؤثر على حصة مصر من مياه النيل المقدرة بـ 55.5 مليار متر مكعب سنوياً، وهو ما يمثل 97% من موارد مصر المائية، فاتخذت حزمة من الإجراءات التي من شأنها أن تقلل الأضرار الناجمة عن ملء وتشغيل سد النهضة، تتعلق هذه الإجراءات بثلاثة محاور رئيسية هي:
تعويض نقص المياه المستخدمة في الزراعة والشرب، تعويض نقص المحاصيل الزراعية نتيجة نقص المياه، زيادة التعاون مع السودان وكسب دعمها في مفاوضات سد النهضة.
إجراءات وقائية
تُقدر احتياجات مصر من المياه بـ 79.5 مليار متر مكعب من المياه سنوياً، أي أن الفجوة بين الموارد والاحتياجات تصل إلى عشرين مليار متر مكعب من المياه سنوياً، ومع النقص المتوقع نتيجة تشغيل السد يمكن أن تتسع هذه الفجوة إلى 35 مليار متر مكعب سنوياً أو تتضاعف، الأمر الذي استوجب أن تتخذ الحكومة المصرية مجموعة من الخطوات التي تعوض هذا النقص:
1-التوسع في محطات تحلية المياه:
وتمثلت إحدى هذه الخطوات في التوسع في تنفيذ محطات تحلية المياه، حيث تتضمن خطة وزارة الإسكان زيادة الموارد المائية من محطات تحلية مياه البحر بحلول العام 2020 إلى 1.7 مليون متر مكعب يومياً بنسبة 6.6% من إجمالي مياه الشرب، ومن المستهدف أن يتم الانتهاء من 19 محطة لتحلية مياه البحر بنهاية 2019، بمحافظات شمال وجنوب سيناء، ومرسى مطروح، وبورسعيد، والبحر الأحمر، بطاقة 626 ألف متر مكعب يومياً.
كما تتضمن خطة الوزارة تنفيذ 16 محطة أخرى بطاقة إجمالية 671 ألف متر مكعب يومياً بمحافظات مرسى مطروح، والبحر الأحمر، وشمال وجنوب سيناء، وكفر الشيخ، هذا بالإضافة إلى 58 محطة قائمة فعلياً بطاقة إجمالية 440 ألف متر مكعب يومياً، وهو ما يعني وصول محطات تحلية مياه البحر في مصر إلى 93 محطة بنهاية العام 2020.
2- توظيف مياه الصرف الصحي:
وتتجه مصر نحو تعظيم الاستفادة من مياه الصرف الصحي واستغلالها في الزراعة من خلال التوسع في محطات معالجة مياه الصرف، حيث يبلغ عدد هذه المحطات 420 محطة تستوعب يوميا 12 مليون و300 ألف متر مكعب، وتُعد محطة الجبل الأصفر مثال حي على التطور في هذا المجال حيث تستوعب وحدها 2.5 مليون متر مكعب من مياه الصرف الصحي، ويستخدم جزء من المياه المعالجة في ري المزرعة التجريبية الملحقة بالمحطة على مساحة 400 فدان للتأكد من صلاحية المياه في الزراعة.
وفي هذا الشأن أيضاً، تم توقيع الاتفاق بين تحالف “أوراسكوم – المقاولون العرب” والهيئة الهندسية للقوات المسلحة لتنفيذ محطة معالجة “بحر البقر” الذي يُعد أهم مشروعات برنامج تنمية شبه جزيرة سيناء، حيث تبلغ سعة المحطة 5 ملايين متر مكعب من مياه الصرف يوميا لزراعة 350 ألف فدان، ومن المستهدف ان يتم الانتهاء منها في يونيو 2020، ليصل إجمالي المياه التي توفرها محطات معالجة مياه الصرف إلى 3.145 مليار متر مكعب سنوياً بنهاية 2020.
3- الزراعات المحمية لسد العجز:
أحد المخاوف الأخرى التي تتعلق باستكمال وتشغيل سد النهضة هو ضعف انتاج بعض المحاصيل كثيفة الاستهلاك للمياه، ولمواجهة ذلك الضرر بدأت مصر في اتخاذ خطوات فعلية لتعويض النقص من خلال التركيز على الزراعات المحمية ذات القيمة الأعلى بدلاً من الزراعات التقليدية في المشروع القومي للصوب الزراعية الذي يستهدف تعظيم الاستفادة من وحدتي الأرض والمياه بمناطق الاستصلاح المستهدفة ويعتمد على ترشيد استخدام المياه بنسبة تتراوح من 15 إلى 20% ويساهم بشكل كبير في زيادة الصادرات الزراعية المصرية.
وتم افتتاح المرحلة الأولي في فبراير عام 2018 بقاعدة محمد نجيب بمنطقة الحمام بمحافظة مرسي مطروح حيث تضم 1302 صوبة زراعية على أحدث التقنيات العالمية وتتراوح مساحة الصوبة الواحدة ما بين 3 – 12 فدانا على مساحة 500 فدان على أحدث الانظمة العالمية.
أما المرحلة الثانية من المشروع فقد تم افتتاحها في شهر ديسمبر 2018، وتتضمن 7100 صوبة زراعية على مساحة 34 ألف فدان في مدينة العاشر من رمضان نفذتها الشركة الوطنية للزراعات المحمية التابعة لجهاز الخدمة الوطنية للقوات المسلحة، وأخيراً تم افتتاح المرحلة الثالثة أغسطس 2019 بقاعدة محمد نجيب العسكرية بعدد 1300 صوبة زراعية على مساحة 10 آلاف فدان ضمن قطاع محمد نجيب للزراعات المحمية.
ويعادل إنتاج المشروع نحو مليون فدان من الزراعات التقليدية المكشوفة ما يعني أن النقص الناتج في المحاصيل يمكن تعويضه من خلال المحاصيل الناتجة عن المشروع القومي للصوب الزراعية سواء باستخدام تلك المحاصيل في السوق المحلية أو بتصديرها إلى الخارج واستخدام عائداتها في توفير المحاصيل التي تحتاجها السوق المحلية.
السودان .. شريك أم وسيط؟
خلال مراحل المفاوضات المختلفة حول سد النهضة، لم يقف السودان موقف الداعم للمصلحة المصرية في مواجهة إثيوبيا في عهد البشير، واتسم تناول السودان للقضية بالمجاملة والتعامل كوسيط وليس كشريك في قضية قومية، وأصبحت مواقفه تفتقر للشفافية وتعلو عليها التوجهات السياسية، ومع التطورات السياسية الحالية في السودان وبعد إزاحة البشير، تسير حكومة حمدوك في ذات الاتجاه، كما اتضح من نتائج اجتماعات سد النهضة الأخيرة بالقاهرة وما تلاها من اجتماعات للجنة الفنية المشتركة ووزراء الري في الخرطوم.
ولأن الجميع يسعى لتحقيق مصلحته أولاً، نجد أن الجانب الإثيوبي يقدم إغراءات للسودان تتمثل في أن تصدر إثيوبيا جزء من كهرباء السد للسودان بأسعار مناسبة، وتجدر الإشارة هنا إلى أن السودان يستورد 200 ميجا وات من الكهرباء من إثيوبيا بقيمة مرضية للجانب السوداني مع وعود بزيادة هذه الكمية مع بداية انتاج السد، ولكن مع نقص الإنتاج في إثيوبيا توقفت عملية نقل الكهرباء للسودان، ما يعني أن هذه الكمية غير ثابتة واستمراريتها غير مضمونة.
ولمواجهة الإغراءات الإثيوبية للسودان من أجل كسب دعمها ضد مصر، بدأت الحكومة المصرية مشروع الربط الكهربي مع السودان ضمن خطة الدولة المصرية للربط الكهربي مع الدول المجاورة، ويتمثل المشروع في تقديم 300 ميجا وات من الكهرباء للسودان كمرحلة أولى، ومن المستهدف أن تصل إلى 3000 ميجاوات، ووفق تصريحات مصادر مسؤولة في وزارة الكهرباء المصرية فإن أسعار الكهرباء المصدرة إلى السودان سوف تكون نفس أسعارها في السوق المصري.
كما أكدت شركة “سيمنز” استكمال بناء وربط امتداد محطة محولات “توشكى” الفرعية في أقصى جنوب البلاد لصالح الشركة المصرية لنقل الكهرباء، ومن المتوقع أن تنقل المحطة الجديدة كهرباء بقدرة 400 ميغاوات بهدف تأمين نقل إمدادات موثوقة من الطاقة الكهربائية مع الحد من أي فاقد نتيجة عمليات النقل، ما يعني أن مصر قادرة على إمداد السودان بالكهرباء التي تحتاجها دون لجوء إلى إثيوبيا، وضمان استمرارية هذه الإمدادات مع زيادة الفائض في الشبكة القومية المصرية، ما يعني أن مصر ماتزال قادرة على استمالة السودان مرة أخرى كطرف داعم للموقف التفاوضي المصري.
ختاماً، يمكن القول إن الدولة المصرية لا تدخر جهداً في الحد من آثار السد في حالة استكماله وتشغيله، كما أنها تسعى لتفعيل أوجه التعاون المصري –الإفريقي والاستفادة من ذلك بكل الطرق الممكنة.