“الخلافة”.. بين سلطوية الجماعات الإسلامية ووهم المفاهيم
“كبرت كلمة تخرج من أفواههم”.. يزعمون أن الخلافة أمر عقدي وأن التقصير في القيام بها معصية من أكبر المعاصي واعتبروا أنفسهم ظلال الله على الأرض؛ فأباحوا القتل وسفك الدماء باسم الله من أجل اقامتها، حيث ادعوا أن منصب الخليفة فرض على المسلمين كافة.
ظهر هذا جليا عبر إحدى المدونات التابعة لتنظيم “داعش”، فيما ينص: “القعود عن إقامة خليفة للمسلمين معصية من أكبر المعاصي، لأنها قعود عن القيام بفرض من أهم فروض الإسلام، ويتوقف عليه إقامة أحكام الدين، بل يتوقف عليه وجود الإسلام في معترك الحياة”؛ فمنحوا بتلك الأدبيات قدسية تعلو على نصوص الشريعة؛ فكانت مبرر لإضفاء الصبغة الدينية على الخلافة والحكام، كما ساوت الجماعات الإسلام السياسي بين الزعامة الدينية الدعوية عند النبي وبين زعامة من تولى بعده حكم المسلمين.
وهم الخلافة يراود الجماعات الإسلام السياسي
يراود جماعات الإسلام السياسي حنين غامض للعودة إلى ما يسمى بالخلافة التي اعتبرها علماء التاريخ الجديد بمثابة وهم هيمن على عقولهم، ربما للخلافة بُعد تاريخي روجته تلك الجماعات بدهاء حتى أن تحولت لأسطورة وهمية لها جذور واقعية في أدبيات كتاباتهم. بدأت أسطورة الخلافة من تاريخ مؤسس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وكان ذلك رد فعل وغضب جيل على إلغاء كمال أتاتورك الخلافة العثمانية الإسلامية في عام 1924؛ فيما تبين في كتاب حسن البنا (مذكرات الدعوة والداعية)، أنه يتحسر على زوال الدولة العثمانية قائلاً: “لقد قامت تركيا بانقلابها الكامل، وأعلن مصطفى كمال باشا إلغاء الخلافة وفصل الدولة عن الدين في أمة كانت إلى بضع سنوات في عرف الدنيا جميعًا مقرّ أمير المؤمنين”.
حدد البنا الهدف الاستراتيجي لجماعة الإخوان من خلال موقفهم من الخلافة والتي تقتضي اتخاذ خطوات تدمير المجتمعات والكفر بالوطنية؛ لذا قال: “إن الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام، وأنها شريعة إسلامية يجب على المسلمين التفكير في أمرها والاهتمام بشأنها، ويتابع: “أنه استرداد الخلافة سيكون المسلمون أساتذة العالم”، كما أنه يمنح لحكام قدسية الوحي وظهر جليًا في كتاب الرسالة “أن الخلافة إنما تقوم لوراثة النبوة”.
ويوضح علي بكر باحث متخصص في شؤون الحركات الإسلامية، في تصريحات للمرصد المصري ، أن جماعة الإخوان تمثل نقطة البداية لظهور التنظيمات الجهادية (القاعدة وداعش)؛ فتنظيم داعش خرج من القاعدة، مشيرا إلى أن الجماعات الجهادية على الرغم من أن جميعها تؤمن بفكرة الخلافة إلا أنهم يختلفون في مقاربتهم لتحقيقها على أرض الواقع. أي أن كل منهم يطبقها على حسب رؤيته.
ويقول “بكر” إن الجماعات أعطت الخلافة أكبر من حجمها حتى وصل بهم الأمر أنهم اعتبروها فرضا من فروض الإسلام يجب على المسلمين تطبيقها، بينما أن الخلافة في الأصل كانت آلية عند خلفاء النبي؛ لإدارة الدولة من بعد النبي؛ لتناسب العصر والأوضاع الاجتماعية.
على الرغم من أن الجماعات الجهادية تتنافس من أجل حمل راية الخلافة المزعومة وتنتقد بعضها البعض، ظهر ذلك عندما أدان تنظيم “القاعدة” إعلان “داعش” عن الخلافة دون أن يشاور باقية الجماعات الجهادية الأخرى أو التنسيق معهم من خلال المحاكم الشرعية أي ما وصفه أيمن الظواهري أمير تنظيم القاعدة بـ “الطريقة النبوية”، إلا أن الظواهري أعلن في سبتمبر 2015، أن القاعدة تقف بجانب أبو بكر البغدادي لتقاتل الصليبيين والعلمانيين.
وأظهرت وثيقة مسربة عرضتها جريدة “الشرق الأوسط” في يناير 2016، جاء بها أن التنظيمات الثلاثة (داعش، القاعدة، والإخوان) تشكل مجلس شورى مشترك في ليبيا، كما أن أعضاء الإخوان في ليبيا انضموا إلى المعسكرات التدريب التابعة لتنظيمي (القاعدة، وداعش). كذلك تواصل الاخوان والقاعدة في أكتوبر 2013، على نقل مقاتلين إلى مصر لمهاجمة الجيش.
ويوضح الدكتور صلاح فضل، أستاذ النقد الأدبي، وعضو المجلس الأعلى للثقافة، في تصريحات للمرصد المصري ، أن الخلافة نظام لتولي السلطة يعتمد على القوة ويوهم بالشرعية ويجوز على حرية الناس في اختيار من يحكم.
وأكد “فضل” أن الاحزاب الدينية ارتدت ثوب الاسلام السياسي لكي تخلط الدين بالسياسة، مما تسبب في تشويه الأمرين معا، مشيرا إلى أن فكرة الخلافة دخيلة على الإسلام استخدمتها الجماعات المتطرفة؛ لاستباحة الدماء باسم الدين وإرهاب الناس وتكفيرهم.
وأوضح أن الجماعات المتطرفة تعتمد لإثبات “الخلافة” على بعض المفاهيم المغلوطة التي تساق لتغطية المقاصد الهدامة في تمزيق وحدة الشعوب وتبديد طاقتها في حروب أهلية طائفية مدمرة. كما أن رفع شعار الخلافة المزعومة من قبل تلك الجماعات المتطرفة مخالفة لكل قيمة في الإخاء والمساواة والشورى الديمقراطية التي حثت عليها الشريعة الإسلامية.
الخلافة ليست من الإسلام
لم يرد بيان في القرآن ولا في الأحاديث النبوية تأكد على وجوب تنصيب الخليفة واختياره، حيث اعتبر الشيخ علي عبد الرازق خلال كتابه “الإسلام وأصول الحكم” أنه من الأخطاء الشائعة التي تسربت إلى عامة المسلمين، الذين خيل إليهم أن الخلافة مركز ديني، وأن من ولي أمر المسلمين فقد حلّ منهم في المقام الذي كان يحله النبي عليه السلام”.
أما بالنسبة لقول الرسول الله: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضا فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها إذا ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت)”، يوضح الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الفقه المقارن والشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، في تصريح للمرصد المصري ، ما يعنيه الحديث أن مدة الخلافة الدعوية التي دامت لمدة بضعة ثلاثين عاما في عهد ( أبي بكر، وعمرو بن الخطاب، عثمان بن عفان، علي بن أبي طالب، والحسن بن علي).
ويقول :” ثم بعد ذلك تكون ملكًا عاضًا أي حقل سياسي في العهد الأموي، ثم ملك متغلبًا في عهد الحكم العباسي والحكم التركي العثماني”، مؤكدا أن الخلافة دعوية وليست سياسية.
وأشار إلى آية التمكين في سورة النور بقول الله تعالى: “وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ” ، أوضح أن التمكين الذي ذكر بالآية يُعني التمكين الدعوي والعمل على إقامة الدين وليس عملا سياسيا.
لذا لا تُعد الخلافة مسألة دينية، بل أنها مسألة سياسية بتنظيم بشري أو اجتهاد من قبل صحابة الرسول -صلى الله عليه وسلم، – لجأوا إليه ليحافظوا على تماسك الجماعة المسلمة بعد وفاة النبي. ويظهر جليًا خلال المعارضة التي وقعت بين الصحابة على اختيار شخص يتولى أمر المسلمين بعد وفاة النبي يؤكد إدراك الصحابة لطبيعة الأمور المتعلقة بأمور سياسية تتوافق مع الحدث الزمني وليست على الدين.
إذا اعتمد الاختيار على الانجازات قبلية؛ لذا تبين ذلك خلال مظاهر المعارضة عند بيعة أبي بكر الصديق؛ “فحينما كان المسلمون يتآمرون في السقيفة عمن يولونه أمرهم، وحين قال الأنصار للمهاجرين: “منا أمير ومنكم أمير”، وحين يجيبهم الصديق: “منا الأمراء ومنكم الوزراء”، وحين ينادي أبو سفيان: “والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم، يا آل عبد مناف، فيم أبو بكر من أموركم؟ أين المستضعفان؟ أين الأذلان؟ على والعباس، وقال يا أبا حسن ابسط يدك حتى أبايعك، فأبى علي، كما خرج القليل على أبوبكر بعد تنصيبه إماماً للمسلمين، مثلما حدث من سعد بن عبادة إذ رفض إعطاء أبي بكر البيعة؛ فتُعد بيعة أبي بكر سياسية ملكية خاضعة لكل طوابع الدولة المحدثة.
فيما قال الدكتور محي الدين عفيفي، الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، أن الواقع المحسوس والحدود الجغرافية تشهد استحالة إقامة الخلافة، وأن الإسلام حث على العمل وإعمار الأرض والأخذ بكل الوسائل المادية لتحقيق التقدم، موضحًا أن الإسلام ينهي على ارهاب الآمنين باسم الدين.
وأضاف “عفيفي”، أن الخلافة ليست أصل من أصول الإسلام، بل أنها قضية فرعية، حيث يُعتبر أفضل نموذج لها بعهد الخلفاء الراشدين، إلا أنه تحولت بعد ذلك إلى صراعات من أجل مسائل دنيوية، مشيرًا إلى أن بعد سقوط الخلافة العثمانية ظهرت الجماعات الإرهابية على مسرح الأحداث مستخدمة الخلافة بشكل سياسي.
وما يؤيده العقل أن إقامة الشعائر الدينية لا تتوقف على الحكومة التي تلبس رداء الدين لتكتسب قدسية تستطيع من خلالها تحقيق أغراضها الدنيوية وأطماعها؛ فصلاح المسلمين في دنياهم لا يتوقف على شيء من ذلك، فليس لنا حاجة إلى تلك الخلافة لأمور ديننا ولا دنيانا.
فيما يوضح “كريمة”، “إن الدولة الإسلامية أو الدينية لا توجد في التاريخ، مضيفا أنه كان مجتمعا وليس دولة، والرسول – صلى الله عليه وسلم – لم يأت ليؤسس كرسي سياسي، بل لإقامة الدين والعمل الدعوي”. وتبين هذا من خلال دعوة الرسول أهل المدينة للاعتماد على نظم حكم لتيسير الحياة، كما أنه لم يغير نظم الحكم السائدة في المدينة.